٢٩٩٣ - وعن عروة، قال: خاصم الزبير رجلاً من الأنصار في شراج من الحرة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((اسق يا زبير! ثم أرسل الماء إلي جارك)). فقال الأنصاري: أن كل ابن عمتك؟ فتلون وجهه، ثم قال:((اسق يا زبير! ثم احبس الماء حتى يرجع إلي الجدر، ثم أرسل الماء إلي جارك)). فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة. متفق عليه.
ــ
الحديث الثالث عن عروة: قوله: ((في شراج من الحرة)) ((مح)): هو – بكسر الشين المعجمة وبالجيم – مسايل الماء، واحدها شرجة. والحرة هي الأرض ذات الحجارة السود. و ((أن كان ابن عمتك)) بفتح الهمزة. ((قض)): وهو مقدر بأن أو لأن، وحرف الجر يحذف معها للتخفيف كثيراً، فإن ((أن)) فيها مع صلتها طولا. ومعناه: هذا التقديم والترجيح، لأنه ابن عمتك أو بسببه، نحوه قوله تعالي:{أَن كَانَ ذَا مَالٍ وبَنِينَ} أي لا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال. ولهذا المقال نسب الرجل إلي النفاق.
((تو)): وقد اجترأ جمع من المفسرين بنسبة الرجل تارة إلي النفاق، وأخرى إلي اليهودية، وكلا القولين زائغ عن الحق؛ إذ قد صح أنه كان أنصارياً، ولم يكن الأنصار من جملة اليهود، ولو كان مغموصا عليه في دينه لم يصفوه بهذا الوصف، فإنه وصف مدح، والأنصار وإن وجد فيهم من يرمي بالنفاق، فإن القرن الأول والسلف بعدهم تحرجوا واحترزوا أن يطلقوا علي من ذكر بالنفاق واشتهر به الأنصاري، والأولي بالشحيح بدينه أن يقول: هذا قول أزله الشيطان فيه بتمكنه عند الغضب، وغير مستبدع من الصفات البشرية الابتلاء بأمثال ذلك.
((مح)): قال القاضي عياض: حكي الداودي أن هذا الرجل كان منافقاً. وقوله في الحديث:((إنه أنصاري)) لا يخالف هذا؛ لأن يكون من قبيلتهم لا من الأنصار المسلمين. وأما قوله في آخر الحديث:((فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت فيه: {فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية. فلهذا قالت طائفة في سبب نزولها قال الشيخ محيي الدين: قالوا: لو صدر مثل هذا الكلام من إنسان كان كافراً جرت علي قائله أحكام المرتدين من القتل. وأجابوا إنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان في أول الإسلام يتألف الناس، ويدفع بالتي هي أحسن، ويصبر علي أذى المنافقين، ويقول: ((لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)). قوله:((تلون وجهه)) أي تغير من الغضب لانتهاك النبوة وقبح كلام هذا الإنسان، والجدر – بفتح الجيم وكسرها، وبالدال المهملة – الجدار، والمراد بالجدر أصل الحائط، وقدره العلماء أن يرتفع الماء في الأرض كلها حتى يبلغ كعب رجل الإنسان.