للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ــ

النار، وشبه فشو ذلك الكشف في مشارق الأرض ومغاربها بإضاءة تلك النار ما حول المستوقد، وشبه الناس وعدم مبالاتهم بذلك البيان والكشف، وتعديهم حدود الله، وحرصهم على استيفاء تلك اللذات والشهوات، ومنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عنه بأخذ حجزهم – بالفراش التي يقتحمن في النار، ويغلبن المستوقد على دفعه إياها عن الاقتحام، وكما أن المستوقد كان غرضه من فعله انتفاع الخلق به من الاهتداء والاستدفاء وغير ذلك، والفراش بجهلها جعلت له سبباً لهلاكها – كذلك كان القصد بتلك البيانات اهتداء الأمة وانتهاؤها عما هو سبب هلاكهم، وهم مع ذلك لجهلهم جعلوهم موجبة لترديهم. وفي قوله: ((آخذ بحجزكم)) استعارة مثلت حالة منعه الأمة عن الهلاك بحالة رجل أخذ بحجرة صاحبه الذي يهوى أن يهوى في قعر بئر مردية.

وفي رواية البخاري: ((فأنا آخذ)) بالفاء، فالفاء فيه فصيحة، كما في قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} فإنه تعالى لما سال بقوله: ((أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً)) وأجابوا: لا، قال: فإذا كان كذلك ((فكرهتموه)) وكذلك أنه عليه الصلاة والسلام لما قال: ((مثلي ومثل الناس)) أي صفتي وصفة الناس، ثم شرع في بيان المشبه به بقوله: ((مثل رجل)) إلى آخره، وعلم أنه ما يقابله على ما بيناها آنفاً – أتى بما هو أهم وأولى منها، وهو قوله: ((فأنا آخذ بحجزكم)) بالفاء، كأنه قيل: إذا صح هذا التمثيل، وأنا مثل المستوقد، وأنتم كالفراش تقتحمون في النار – فأنا آخذ بحجزكم، ولهذه الدقيقة التفت من الغيبة في قوله: ((مثل الناس)) إلى الخطاب في قوله: ((فأنا آخذ بحجزكم)) كما أنك إذا أخذت في حديث من لك عناية بشأنه، والحال أنه مشتغل بشيء يورطه في الهلاك، ثم أنك من غاية رأفتك عليه وشدة حرصك على نجاته تجد في نفسك أنه حاضر عندك فتتحرى خلاصه.

وفيه إشارة إلى أن الإنسان إلى النذر أحوج منه إلى البشير، ولذلك أفرده في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وذلك أن جبلة الإنسان مائلة إلى الحظوظ العاجلة دون الآجلة، كما قال الله تعالى: {كَلَاّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ (٢٠) وتَذَرُونَ الآخِرَةَ} فأوجب قلعها أولا لتيمكن من تحري ما يزلفه إلى الله تعالى، ومن ثم قيل: التحلية بعد التخلية. وفي الحديث إظهار لرأفته ورحمته على الأمة، وحرصه على نجاتهم، كما قال الله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.

<<  <  ج: ص:  >  >>