وثانيهما: ما يتعلق به وبخواصه وأهل منزلته وشعبها ثمان التعفف عن الزنا والنكاح والقيام بحقوقه والبر بالوالدين وصلة الرحم وطاعة السادة والإحسان إلى المماليك والعتق.
وثالثها: ما يعم الناس، وينوط به إصلاح العباد، وشعبها سبع عشرة: القيام بإمارة المسلمين، واتباع الجماعة، ومطاوعة أولى الأمر، ومعاونتهم على البر، وإحياء معالم الدين ونشرها، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ الدين بالرجز عن الكفر، ومجاهدة الكفار، والمرابطة في سبيل الله، وحفظ النفس بالكف عن الجنايات، وإقامة حقوقها من القصاص والديات، وحفظ الأنساب وأعراض الناس بإقامة حدود الزنا والقذف، وصيانة العقل بالمنع عن تناول المسكرات والمخبثات بالتهديد والتأديب عليه، ودفع ضرر عن المسلمين، ومن هذا القبيل إماطة الأذى.
(غب): هذا حديث من تأمله وعرف حقيقته على أن الإيمان بالواجب هو اثنتان وسبعون درجة، لا يصح أن يكون أكثر منها ولا أقل، ولا يوجد من الإيمان ما هو خارج عنها بوجه.
وأقول: ثم شرع بعد هذا في تقسيم الإيمان بهذا العدد المخصوص، ولم نذكره لصعوبته، وها هو الإمام المتقن قدوة المحدثين أبو بكر البيهقي، قد صنف كتاب شعب الإيمان في مصنفات مجلدات مطنبا فيها كل الإطناب في حصر الاعداد.
وأقول - والعلم عند الله -: والأظهر أن يذهب إلى معنى التكثير، ويكون ذكر البضع للترقي، يعني أن شعب الإيمان أعداد مبعهمة، ولا نهاية لكثرتها، إذ لو أريد التحديد لم يبهمه، ولعمري أنه كذلك، وبيانه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين ابتدائها وانتائها ووسطها. فلو أخذت من الابتداء إلى الانتهاء كان على وزن قوله (تعالى): إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) معناه من رضي بالله ربّا، وعمل بمقتضاه، لم يدع ما يحب عليه أن ياتي ويذر، فإنك إن تنزلت من حديث خالق الموجودات إلى حديث الشوكة وإماطتها هل تجد شيئا مما يحسنه الشرع والعقل من الاخلاق، ومراضي الأعمال خارجا من ذلك؟ وكذا لو عكست وترقيت من إماطة الشوكة إلى الاعلى، ولو شرعت في معنى الحياء وفسرته بما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (استحيتوا من الله، قالوا: إنا نستحيي من الله يا رسول الله، والحمد لله، قال: ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وماحوى، ويذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء) لقد حاولت أمرًا عظيماً، وفيه إشارة إلى منازل السائرين إلى الله، والسالكين لطريق الآخرة.
قال الشيخ العارف أبو القاسم الجنيد (رحمة الله عليه): الحياء حالة تتولد في رؤية الآلاء ورؤية التقصير. وقد صنف الإمام أبو اسماعيل عبدالله الأنصاري فيها كتابًا، وحصرها في مائة باب، كل باب يشتمل على درجات شتى، ثم ليذق من منح الفضل الإلهي