ــ
ــ
وثالثهما: أن الغرض من الجزية وإنزال الصغار والهوان على الذمي اضطرارا هم إلى
الإسلام، وإبدالهم العزة بالذلة، وسبب السبب سبب؛ فيكون المقاتلة سبباً للقول والفعل.
ويظهره قوله (تعالى): (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) المنزل هو المطر، وهو سبب
لإنبات الشعب وهو سبب لتكثير الحيوان، فعلى هذا غلب في الحديث السبب الأول_ أي
المقاتلة_ على السبب الثاني_ أخذ الجزية_ كما غلب العم على أحد الأبوين، على أن الاحتمال
قائم في أن ضرب الجزية كان هذا بعد القول. (قض): إذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت) فهم
منه أن الله (تعالى) أمره، وإذا قاله الصحابي (رضي الله عنه) فهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمره، فإن
من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الرئيس أمره، وإنما خص الصلاة والزكاة
بالذكر والمقاتلة عليهما أيضا بحق الإسلام؛ لأنهما أم العبادات البدنية والمالية، والمعيارعلى
غيرهما والعنوان له، ولذلك سمى الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإيمان، وأكثر الله
(سبحانه تعالى) من ذكرهما مقارنتين في القرآن.
أقول قوله: (إلا بحق الإسلام) استثناء من أعم عام الجار والمجرور، فمعنى الحديث
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا شهدوا عصموا
مني دماءهم (وأموالهم، فلا يجوز إهدار دمائهم) واستباحة أموالهم بسبب من الأسباب، إلا
بحق الإسلام: من قتل النفس المحرمة، وترك الصلاة والزكاة بتأويل باطل، وغير ذلك. وأما
تقديم قوله: (تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة) وإزالتهما عن مقرهما هذا وعطفهما على الشهادتين_
فللدلالة على أنهما بمنزلتهما في كونهما غاية للمقاتلة، إيذاناً أم العبادات وأساسها،
قريب منه في العطف قوله (تعالى): (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء
سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء) في سالف عهده في العظم والقدم، وإليه أشار صاحب
الكشاف، حيث قال: إيذاناً بأنهما في العظم أخوان، وبأن هذا ليس بأول ما ركبوه من العظام.
ويؤيد هذا التأويل رواية أبي هريرة (رضي الله عنه) فإنه لم يذكر فيها الصلاة والزكاة.
قوله: (وحسابهم على الله) فيما يسرون به من الكفر والمعاصي، والمعنى أنا نحكم عليهم
بالإيمان، ونؤاخذهم بحقوق الإسلام، وبحسب ما يقتضيه ظاهر حالهم، والله (سبحانه وتعالى)
يتولى حسابهم، فيثيب المخلص، ويعاقب المنافق، ويجازي المسر بفسقه أو يعفو عنه. (خط):
فيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر، وهو قول أكثر العلماء، وذهب
مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك أيضاً عن أحمد بن حنبل.
(مح): اختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق، وهو الذي ينكر الشرع جملة، فذكروا فيه
خمسة أوجه: أصحها قبولها مطلقا؛ للأحاديث الصحيحة المطلقة. والثاني لا تقبل، ويتحتم