للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قبل ذلك واحدًا لا يتميز أحد من أحد بلباسه، وكان كثير الحديث.

وروى الخطيب بإسناد متصل إلى علي بن الجعد، قال: أخبرني أبو يوسف القاضي، قال: توفي أبي، وخلَّفني صغيرًا في حِجْر أمي، فأسلمتني إلى قَصَّار أخدمه، فكنت أدعُ القصار، وأذهب إلى حلقة أبي حنيفة، فتأخذ بيدي، وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعتني بي؛ مما يرى من حضوري، وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي، وطال عليها أمري، قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فسادٌ غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وأنا أطعمه من مِغْزلي، وقصدي أن يكسب دانقًا يعود به على نفسه.

فقال لها أبو حنيفة: اذهبي يا رعناء، ها هو يتعلم أكل الفالُوذَج بدهن الفستق، فانصرفت عنه، وقالت له: أنت شيخ، وقد خَرِفْتَ، وذهب عقلك.

ثم لزمتُه، فنفعني الله تعالى بالعلم، ورفعني حتى تقلَّدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد على مائدته، فلما كان في بعض الأيام، قُدِّم إلى الرشيد فالوذجة، فقال لي: يا يعقوب! كل منه، فليس في كل يوم يُعمل لنا مثلُها، فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: هذه فالوذجة من الفستق، فضحكتُ، فقال لي: ممَّ تضحك؟ فقلت: خيرًا، أبقى الله أمير المؤمنين، قال: فأخبرْني، وألحَّ عليَّ، فأخبرته القضية من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك، وقال: لعمري! إن العلم لينفع دينًا ودُنيا، فترحَّم على أبي حنيفة، وقال: كان ينظر بعين قلبه ما لا يراه بعين رأسه.