ومع أن بعد المتأخرين عن منهج المتقدمين في النقد له أسباب كثيرة، تأتي الإشارة إلى شيء منها في بداية الفصل الثاني من الباب الثالث, إلا أنه يحسن هنا التنبيه على عقدة القضية في مسألة التفرد، وهو أمر سبقت الإشارة إليه، ووعدت بأن أعيد ذكره في مناسبات أخرى لأهميته، وخلاصته أن الناقد في عصر النقد يحكم على الراوي بعد النظر في حديثه، إذ قد تقدم في «الجرح والتعديل»(١) في شرح وسائل الحكم على الراوي أن هذه الوسيلة أهم الوسائل، وأكثرها استعمالا، فالحكم على الراوي فرع على النظر في حديثه، وأما المتأخر فالحكم على الحديث فرع على درجة الراوي المتقررة سابقا، فالصورة مقلوبة إذن.
فالناقد نظر في أحاديث الراوي مقارنا لها بما لديه من مخزون عظيم من أحاديث الرواة الآخرين، فما وافق فيه غيره كان لصالح الراوي، دالا على ثقته وضبطه، وما خالف فيه غيره، أو تفرد به، ينظر فيه الناقد، فما عده خطأ، أو منكرا، حكم عليه بذلك، ثم تكون الموازنة بين ما أصاب فيه، وما أخطأ فيه، فإن كان الغالب عليه الصواب، وأخطأ أو تفرد بأشياء منكرة قليلة، فهذا يوثقه الناقد، مع بقاء حكمه على ما أخطأ فيه أو استنكره عليه، لم يغيره كونه عنده ثقة، ولا يمكن أن يغيره، وإلا أدى هذا إلى الدور في الاستدلال، وإن كان الغالب عليه الخطأ والتفرد بما يستنكر ضعفه الناقد، مع بقاء حكمه عليه فيما وافق فيه