ذكرت في المبحث السابق أن تعاضد القرائن على ترجيح حفظ وجه واحد من الاختلاف، أو على ترجيح حفظ وجهين أو أكثر، أو ترجيح عدم حفظ شيء من الأوجه، يساعد الناظر كثيرا في الخلوص برأي في الاختلاف الذي ينظر فيه، وأشرت هناك إلى أن الاختلافات لو كانت كلها بهذه المثابة لكان الجميع أئمة نقد, وأعني بذلك من يسير على منهج النقاد وطريقتهم في النظر في الاختلاف.
وفي كلامي هذا تهيئة للاستعداد لما سيذكر في هذا المبحث، فقضية تعارض القرائن حين النظر في الاختلاف هي المحك بالنسبة للباحث، إذ عليه أن يدرك أن العلم -في أي فن- يتفاوت الناس فيه إذا وصلوا إلى دقيقه ومشكله، فيجمعهم مضمار واحد أولا قد يتفاوتون فيه أيضا، غير أن التفاوت الأبرز إذا وصلوا إلى مضمار آخر تتعارض فيه البينات، وربما تكافأت الأدلة.
والمتأمل فيما تقدم يراه موجودا في جميع جوانب حياة الإنسان، هكذا هو الحال لا خيار لنا فيه، فالقاضي -مثلا- يسهل عليه الحكم إذا تعاضدت البينات والقرائن، ويصعب عليه الحكم إذا تعارضت، وهكذا المستشار وصاحب القرار.
والناظر في مسألة من مسائل العلم إنما هو قاض في الحقيقة، قد يكون أمامه خصمان أو عدة خصوم، فيضطر للنظر في بيناتهم ودلائلهم.