هذا الترجيح عدد منهم، فالذي أراه كذلك أنه ينبغي التسليم لهم والأخذ بقولهم، وإن بدا للباحث أن الراجح خلافه، فتوارد جماعة من الأئمة على شيء هو بالنسبة للمتأخر أمر ملزم.
يبقى مجال النظر فيما إذا حكم واحد منهم بترجيح وجه من الوجوه، فقد يقال: هذا حكم شخص واحد، والباحث قد وقف على مرجحات تدل على خلاف ما ذهب إليه هذا الإمام، فالمتجه حينئذ أن يبدي الباحث رأيه المخالف، فيقول مثلا: وقد ذهب فلان إلى ترجيح الوصل، لكذا وكذا، والذي يظهر لي أن الراجح إرسال الحديث لما يأتي، ويذكر ما اعتمد عليه، أو العكس.
وغير خاف أن القول بأن للباحث أن يخالف هذا الإمام، مبني على ظواهر الأمور، ففي كل اختلاف في أي علم من العلوم إذا بدا للباحث خلاف ما ذهب إليه أحد ممن سبقه، معتمدا على أدلة قوية فله أن يذكر رأيه، لكن هذا القول لم يلاحظ ما لهذا العلم من خاصية -أعني علم اختلاف الروايات والموازنة بينها- ينفرد بها عن غيره من العلوم، وهذه الخاصية هي أن أئمته الذي طبقوه في عصر الرواية كان فيهم من الدراية والعلم، ولديهم وسائل الترجيح والموازنة ما لا يمكن توافره لمن جاء بعدهم، وقد تقدم شيء من هذا في الفصل الرابع من الباب الأول، فأحكامهم على الاختلافات وعلى أخطاء الرواة يصدرونها من منطلق مجموعة من المعارف كونت لديهم قدرة علمية بها يميزون الخطأ من الصواب، والراجح من المرجوح، حتى أنه في أحيان كثيرة يحكم الواحد منهم بحكم ولا يستطيع أن يقيم الدليل عليه مع جزمه به.