والقلب الثاني: قلبٌ مضروبٌ بسِياط الجهالة، فهو عن معرفة ربه ومحبّته مصدود، وطريقُ معرفةِ أسمائه وصفاته كما أُنزِلتْ عليه مسدود، قد قَمَشَ شُبَهًا من الكلام الباطل، وارتوَى من ماءٍ آجن غير طائل، تَعُجُّ منه آياتُ الصّفاتِ وأحاديثُها إلى الله عجيجًا، وتضِجُّ منه إلى مُنْزِلها ضجيجًا، مما يسومها تحريفًا وتعطيلًا، ويُولي معانيها تغييرًا وتبديلًا. قد أعدّ لدفعها أنواعًا من العُدَد، وهيّأ لردّها ضروبًا من القوانين، وإذا دُعي إلى تحكيمها أبى واستكبر، وقال: تلك أدلّة لفظية لا تفيد شيئًا من اليقين. قد اتّخذ التأويلَ جُنّةً يَتترَّسُ بها من مواقع سهام السنّة والقرآن، وجعل إثباتَ صفاتِ ذي الجلال تجسيمًا وتشبيهًا يَصُدُّ به القلوبَ عن طريق العلم والإيمان. مزْجَى البضاعة من العلم النافع الموروث عن خاتمِ الرسل والأنبياء، لكنه مليء بالشكوك والشُّبَه والجدال والمِراء. خلع عليه الكلامُ الباطلُ خِلعةَ الجهلِ والتجهيل، فهو يتعثرّ في أذيالِ التكفير لأهل الحديث والتبديع لهم والتضليل. قد طاف على أبواب الآراء والمذاهب، يتكفّفُ أربابَها، فانثنى بأخسِّ المواهِب والمطالِب. عَدَلَ عن الأبواب العالية الكفيلة بنهاية المراد وغاية الإحسان، فابتلي بالوقوف على الأبواب السافلة المليئة بالخيبة والحرمان. قد لبس حُلّةً منسوجةً من الجهل والتقليد والشبه والعناد، فإذا بُذِلت له النصيحةُ، ودُعِيَ إلى الحقّ، أخذته العزّة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد.
فما أعظم المصيبةَ بهذا وأمثاله على الإيمان! وما أشدَّ الجنايةَ به على السنّة والقرآن! وما أحبَّ جهادَه بالقلب واليد واللسان إلى الرحمن! وما أثقلَ أجرَ ذلك الجهاد في الميزان!
والجهاد، بالحجّة والبيان مقدّم على الجهاد بالسيف والسنان. ولهذا أمر به تعالى في السور المكية حيث لا جهاد باليد إنذارًا وتعذيرًا. فقال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (٥٢)} [الفرقان: ٥٢]. وأمر تعالى بجهاد المنافقين والغلظة عليهم مع كونهم بينَ أظهُرِ المسلمين في