للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْ يَعْرِفَ صِحَّتَهُ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لَهُمْ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْ يَسْتَحِقَّ الرِّضْوَانَ، وَلَوْ كَانَ اتِّبَاعُهُمْ تَقْلِيدًا مَحْضًا كَتَقْلِيدِ بَعْضِ الْمُفْتِينَ لَمْ يَسْتَحِقَّ مَنْ اتَّبَعَهُمْ الرِّضْوَانَ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَامِّيًّا، فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ اتِّبَاعُهُمْ حِينَئِذٍ.

فَإِنْ قِيلَ: اتِّبَاعُهُمْ هُوَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالُوا بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ سُلُوكُ سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا قَالُوا بِالِاجْتِهَادِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {بِإِحْسَانٍ} [التوبة: ١٠٠] وَمَنْ قَلَّدَهُمْ لَمْ يَتَّبِعْهُمْ بِإِحْسَانٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُطْلَقُ الِاتِّبَاعِ مَحْمُودًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ بِإِحْسَانٍ أَوْ بِغَيْرِ إحْسَانٍ، وَأَيْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادُ بِهِ اتِّبَاعُهُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَقَوْلُهُ {بِإِحْسَانٍ} [التوبة: ١٠٠] أَيْ بِالْتِزَامِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّ السَّابِقِينَ قَدْ وَجَبَ لَهُمْ الرِّضْوَانُ، وَإِنْ أَسَاءُوا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ» ، وَأَيْضًا فَالثَّنَاءُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ كُلَّهُمْ، وَذَلِكَ اتِّبَاعُهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَالثَّنَاءُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِهِمْ، وَذَلِكَ دَلِيلُ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، أَوْ تَقْلِيدِ الْأَعْلَمِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ أُخْرَى.

أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِيهِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاتِّبَاعَ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاجْتِهَادَ لِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ الِاتِّبَاعَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: ٣١] {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: ١٥٨] {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: ١١٥] وَنَحْوُهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْقَائِلِ؛ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ اتِّبَاعَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ السَّابِقِينَ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ مُوجِبِ الدَّلِيلِ يَجِبُ أَنْ يَتَّبِعَ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ، فَمَنْ قَالَ قَوْلًا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَجَبَ مُوَافَقَتُهُ فِيهِ؛ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إمَّا أَنْ تَجُوزَ مُخَالَفَتُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ لَا تَجُوزُ، فَإِنْ لَمْ تَجُزْ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ جَازَتْ مُخَالَفَتُهُمْ فَقَدْ خُولِفُوا فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ وَاتَّبَعُوا فِي أَحْسَنِ الِاسْتِدْلَالِ، فَلَيْسَ جَعْلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُتْبِعًا لِمُوَافَقَتِهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مُخَالِفًا لِمُخَالَفَتِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ؛ الرَّابِعُ: أَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الْحُكْمِ الَّذِي أَفْتَوْا بِهِ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لَهُمْ أَصْلًا، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ خَالَفَ مُجْتَهِدًا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَسْأَلَةٍ بَعْدَ اجْتِهَادٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ " اتَّبِعْهُ "، وَإِنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِأَنْ يُقَالَ اتَّبِعْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَوْ الِاجْتِهَادِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الِاتِّبَاعَ افْتِعَالٌ مِنْ اتَّبَعَ، وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ تَابِعًا لِغَيْرِهِ نَوْعَ افْتِقَارٍ إلَيْهِ وَمَشْيٍ خَلْفَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>