للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَرْجِعْ عَنْهُ، بَلْ كَلَامُهُ فِي الْجَدِيدِ مُطَابِقٌ لِهَذَا مُوَافِقٌ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ لَفْظِهِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْجَدِيدِ فِي قَتْلِ الرَّاهِبِ: إنَّهُ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ، وَلَكِنْ أَتْرُكُهُ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَهُ لِقَوْلِ الصَّاحِبِ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ مُوجِبَ الدَّلِيلِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ؟ وَقَالَ: فِي الضِّلَعِ بَعِيرٌ، قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُمَرَ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ، وَقَالَ فِي الْفَرَائِضِ: هَذَا مَذْهَبٌ تَلَقَّيْنَاهُ عَنْ زَيْدٍ. وَلَا تَسْتَوْحِشْ مِنْ لَفْظَةِ التَّقْلِيدِ فِي كَلَامِهِ، وَتَظُنَّ أَنَّهَا تَنْفِي كَوْنَ قَوْلِهِ حُجَّةً بِنَاءً عَلَى مَا تَلَقَّيْتُهُ مِنْ اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ التَّقْلِيدَ قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، فَهَذَا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعِ مِنْ كَلَامِهِ بِتَقْلِيدِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: قُلْت هَذَا تَقْلِيدًا لِلْخَبَرِ، وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ.

قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إذَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَإِذَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ نَخْتَارُ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَإِذَا جَاءَ عَنْ التَّابِعِينَ زَاحَمْنَاهُمْ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ إنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَلَا، قَالُوا: لِأَنَّهُ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ لَمْ يَكُنْ إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِنْ خَالَفَهُ صَحَابِيٌّ آخَرُ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا " لَيْسَ بِحُجَّةٍ " قَالُوا: لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ مُجْتَهِدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فَلَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً كَسَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ تَعُمُّ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ دُونَهُمْ، وَلِأَنَّ التَّابِعِيَّ إذَا أَدْرَكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ اعْتَدَّ بِخِلَافِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُ الْوَاحِدِ حُجَّةً عَلَيْهِ؟ وَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ قَدْ انْحَصَرَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَالِاسْتِصْحَابِ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهَا، وَلِأَنَّ امْتِيَازَهُ بِكَوْنِهِ أَفْضَلَ، وَأَعْلَمَ وَأَتْقَى لَا يُوجِبُ وُجُوبَ اتِّبَاعِهِ عَلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ.

فَنَقُولُ: الْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِي الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ، الثَّانِي فِي الْجَوَابِ عَنْ شُبَهِ النُّفَات.

[الْأَدِلَّةُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ]

فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: مَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: ١٠٠] فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ، فَإِذَا قَالُوا قَوْلًا فَاتَّبَعَهُمْ مُتَّبِعٌ عَلَيْهِ قَبْلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>