السَّابِقِينَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعْرِفَةَ قَوْلِ جَمِيعِ السَّابِقِينَ كَالْمُتَعَذَّرِ، فَكَيْفَ يُتَّبَعُونَ كُلُّهُمْ فِي شَيْءٍ لَا يَكَادُ يُعْلَمُ؟
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ بِكَوْنِهِمْ هُمْ السَّابِقِينَ، وَهَذِهِ صِفَةٌ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ إمَامًا لِلْمُتَّقِينَ كَمَا اسْتَوْجَبَ الرِّضْوَانَ وَالْجَنَّةَ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا قَوْلُهُ " لَيْسَ فِيهَا مَا يُوجِبُ اتِّبَاعُهُمْ " فَنَقُولُ: الْآيَةُ تَقْتَضِي الرِّضْوَانَ عَمَّنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ؛ فَلَا يَكُونُ اتِّبَاعُهُمْ قَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، بَلْ قَوْلًا بِعِلْمٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَحِينَئِذٍ فَسَوَاءٌ يُسَمَّى تَقْلِيدًا أَوْ اجْتِهَادًا، وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُ الْعَالِمُ لِلْعَالِمِ حَرَامًا كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَاتِّبَاعُهُمْ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ لِأَنَّهُ مَرَضِيٌّ، وَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ جَائِزًا أَوْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ مُسْتَثْنًى مِنْ التَّقْلِيدِ الْمُحَرَّمِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ تَقْلِيدَ الْعُلَمَاءِ مِنْ مُوجِبَاتِ الرِّضْوَانِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ تَقْلِيدَهُمْ خَارِجٌ عَنْ هَذَا، لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْعَالِمِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَتَرَكَهُ إلَى قَوْلِ غَيْرِهِ أَوْ إلَى اجْتِهَادٍ جَائِزٌ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ، وَالشَّيْءُ الْمُبَاحُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرِّضْوَانُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ رِضْوَانَ اللَّهِ غَايَةُ الْمَطَالِبِ الَّتِي لَا تُنَالُ إلَّا بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْلِيدَ الَّذِي يَجُوزُ خِلَافُهُ لَيْسَ بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، بَلْ الِاجْتِهَادُ أَفْضَلُ مِنْهُ، فَعُلِمَ أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ هُوَ أَفْضَلُ مَا يَكُونُ فِي مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفُوا فِيهَا هُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَنَّ اتِّبَاعَهُمْ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ هُوَ الْمُوجِبُ لِرِضْوَانِ اللَّهِ؛ فَلَا رَيْبَ أَنَّ رُجْحَانَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ.
[وَقَوْلُهُمْ أَرْجَحُ] بِلَا شَكٍّ، وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ لَا يَتَخَيَّرُ الرَّجُلُ فِيهَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَى الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَالتَّقْلِيدُ وَظِيفَةُ الْعَامَّةِ، فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا لَهُمْ أَوْ مُحَرَّمًا؛ إذْ الِاجْتِهَادُ أَفْضَلُ مِنْهُ لَهُمْ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ أُرِيدَ بِاتِّبَاعِهِمْ التَّقْلِيدُ الَّذِي يَجُوزُ خِلَافَهُ لَكَانَ لِلْعَامَّةِ فِي ذَلِكَ النَّصِيبُ الْأَوْفَى، وَكَانَ حَظُّ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَبْخَسَ الْحُظُوظِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ، وَأَيْضًا فَالرِّضْوَانُ عَمَّنْ اتَّبَعَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ صَوَابٌ لَيْسَ بِخَطَإٍ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ خَطَأٌ لَكَانَ غَايَةُ صَاحِبِهِ أَنْ يُعْفَى لَهُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْمُخْطِئَ إلَى أَنْ يُعْفَى عَنْهُ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى أَنْ يَرْضَى عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ؛ لِأَنَّ خِلَافَ الصَّوَابِ خَطَأٌ، وَالْخَطَأُ يَحْرُمُ اتِّبَاعُهُ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ خَطَأٌ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ خَطَأٌ يَكُونُ الصَّوَابُ خِلَافَهُ، وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ اتِّبَاعُهُمْ مُوجِبٌ الرِّضْوَانَ لَمْ يَكُنْ تَرْكُ اتِّبَاعِهِمْ مُوجِبٌ الرِّضْوَانَ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَقْتَضِيه وُجُودُ الشَّيْءِ وَضِدُّهُ وَلَا وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَدِيمَ الْأَثَرِ فِي ذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الرِّضْوَانَ وَالْآخَرُ لَا يُوجِبُهُ كَانَ الْحَقُّ مَا يُوجِبُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ طَلَبَ رِضْوَانِ اللَّهِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute