للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَالْجَوَابُ أَنَّ نُصُوصَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّهَا حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَجِبُ الْأَخْذُ بِجَمِيعِهَا، وَلَا يُتْرَكُ لَهُ نَصٌّ إلَّا بِنَصٍّ آخَرَ نَاسِخٍ لَهُ، لَا يُتْرَكُ بِقِيَاسٍ وَلَا رَأْيٍ وَلَا عَمَلِ أَهْلِ بَلَدٍ وَلَا إجْمَاعٍ، وَمُحَالٌ أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِ نَصٍّ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نَصٌّ آخَرُ يَنْسَخُهُ، فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» عَامٌّ قَدْ خُصَّ مِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَحُوزُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَ مَوَارِيثَ: عَتِيقُهَا، وَلَقِيطُهَا، وَوَلَدُهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ» وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا عَصَبَةُ عَتِيقِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا عَصَبَةَ لَقِيطِهَا وَوَلَدِهَا الْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفْصِلُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، فَإِذَا خُصَّتْ مِنْهُ هَذِهِ الصُّوَرُ بِالنَّصِّ وَبَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ خُصَّتْ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورَةُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلَالَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» إنَّمَا هُوَ فِي الْأَقَارِبِ الْوَارِثِينَ بِالنَّسَبِ وَهَذَا لَا تَخْصِيصَ فِيهِ.

قِيلَ فَأَنْتُمْ تُقَدِّمُونَ الْمُعْتِقَ عَلَى الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ، وَلَيْسَ مِنْ الْأَقَارِبِ، فَخَالَفْتُمْ النَّصَّيْنِ مَعًا، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» فَأَكَّدَهُ بِالذُّكُورَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْعَاصِبَ بِنَفْسِهِ الْمَذْكُورَ هُوَ الذَّكَرُ دُونَ الْأُنْثَى وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِلَفْظِ الرَّجُلِ مَا يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: «مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ» وَنَحْوِهِ مِمَّا يُذْكَرُ فِيهِ لَفْظُ الرَّجُلِ وَالْحُكْمُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الصَّدَقَاتِ «فَابْنُ لَبُونِ ذَكَرٍ» لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الذَّكَرُ دُونَ الْأُنْثَى، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْحَدِيثِ لِلْعَاصِبِ بِغَيْرِهِ، فَدَلَّ قَضَاؤُهُ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي إعْطَاءِ الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الْبِنْتِ مَا بَقِيَ أَنَّ الْأُخْتَ عَصَبَةٌ بِغَيْرِهَا، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» بَلْ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَصَبَةٌ بِغَيْرِهِ، بَلْ كَانَ الْعَصَبَةُ عَصَبَةً بِأَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ أَوْلَاهُمْ وَأَقْرَبُهُمْ إلَى الْمَيِّتِ أَحَقَّهُمْ بِالْمَالِ، وَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ الْعَصَبَتَانِ فَقَدْ دَلَّ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الصَّحِيحُ أَنَّ تَعْصِيبَ الْأُخْتِ أَوْلَى مِنْ تَعْصِيبِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ أَعْطَاهَا الْبَاقِيَ وَلَمْ يُعْطِهِ لِابْنِ عَمِّهِ مَعَ الْقَطْعِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ بَنُو عَمٍّ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَقَرِيبٌ وَبَعِيدٌ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَا حَكَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاءً عَامًّا كُلِّيًّا، فَالْأَمْرُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَظْهَرَ وَأَظْهَرَ.

فَصْلٌ

وَمِمَّا يُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ - قَوْله تَعَالَى -: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: ١٧٦] إنَّمَا يَدُلُّ مَنْطُوقُهُ عَلَى أَنَّهَا تَرِثُ النِّصْفَ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، وَالْمَفْهُومُ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَسْكُوتِ لَيْسَ مُمَاثِلًا لِلْحُكْمِ فِي الْمَنْطُوقِ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ تَفْصِيلٌ حَصَلَ بِذَلِكَ مَقْصُودُ الْمُخَالَفَةِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمَسْكُوتِ مُخَالِفَةً لِكُلِّ صُوَرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>