للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَهَذَا أَيْضًا يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فِيهِ بَيْنَ تَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ، وَلَوْ قَطَعَ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي فَعِنْدَ مَالِكٍ يَضْمَنُهَا بِالْبَدَلِ وَيَمْلِكُهَا لِتَعَذُّرِ مَقْصُودِهَا عَلَى الْمَالِكِ فِي الْعَادَةِ؛ أَوْ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فَصْلٌ [الْمُتْلَفَاتُ تُضْمَنُ بِالْجِنْسِ]

الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْمُتْلَفَاتِ تُضْمَنُ بِالْجِنْسِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ، حَتَّى الْحَيَوَانُ فَإِنَّهُ إذَا اقْتَرَضَهُ رَدَّ مِثْلَهُ كَمَا اقْتَرَضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكْرًا وَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرُورُ يَضْمَنُ وَلَدَهُ بِمِثْلِهِمْ كَمَا قَضَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَقِصَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ الْمَاشِيَةَ كَانَتْ قَدْ أَتْلَفَتْ حَرْثَ الْقَوْمِ فَقَضَى دَاوُد بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ كَأَنَّهُ ضَمَّنَهُمْ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ إلَّا الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُمْ الْغَنَمَ بِالْقِيمَةِ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَحَكَمَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَاشِيَةِ يَقُومُونَ عَلَى الْحَرْثِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ فَضَمَّنَهُمْ إيَّاهُ بِالْمِثْلِ، وَأَعْطَاهُمْ الْمَاشِيَةَ يَأْخُذُونَ مَنْفَعَتَهَا عِوَضًا عَنْ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي فَاتَتْ مِنْ غَلَّةِ الْحَرْثِ إلَى أَنْ يَعُودَ، وَبِذَلِكَ أَفْتَى الزُّهْرِيُّ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيمَنْ أُتْلِفَ لَهُ شَجَرٌ. فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَغْرِسُهُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ.

وَقَالَ رَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ: عَلَيْهِ الْقِيمَةُ، فَغَلَّظَ الزُّهْرِيُّ الْقَوْلَ فِيهِمَا، وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَحُكْمُ سُلَيْمَانَ هُوَ مُوجَبُ الْأَدِلَّةِ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ بِالْمِثْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: ٤٠] وَقَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤] وَقَالَ: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: ١٩٤] وَقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: ١٢٦] وَإِنْ كَانَ مِثْلُ الْحَيَوَانِ وَالْآنِيَةِ وَالثِّيَابِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذِّرًا فَقَدْ دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: الضَّمَانُ بِالدَّرَاهِمِ الْمُخَالِفَةِ لِلْمِثْلِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْمَقْصُودِ وَالِانْتِفَاعِ وَإِنْ سَاوَتْ الْمَضْمُونَ فِي الْمَالِيَّةِ، وَالضَّمَانُ بِالْمِثْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ الْمُسَاوِي لِلْمُتْلَفِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْمَقْصُودِ وَالِانْتِفَاعِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ وَالْعَدْلِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْقِصَاصِ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتْ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذِّرَةً حَتَّى فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمُمَاثَلَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْجِنْسَ إلَى الْجِنْسِ أَقْرَبُ مُمَاثَلَةً مِنْ الْجِنْسِ إلَى الْقِيمَةِ؛ فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَمُوجَبُ النُّصُوصِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>