للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِبَعِيدٍ تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ بِالْقُرْعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ إذْ هِيَ غَايَةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ تَرْجِيحِ الدَّعْوَى، وَلَهَا دُخُولٌ فِي دَعْوَى الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ بِقَرِينَةٍ وَلَا أَمَارَةٍ، فَدُخُولُهَا فِي النَّسَبِ الَّذِي يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ الْخَفِيِّ الْمُسْتَنِدِ إلَى قَوْلِ الْقَائِفِ أَوْلَى وَأَحْرَى.

وَأَمَّا أَمْرُ الدِّيَةِ فَمُشْكِلٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَتْلٍ يُوجِبُ الدِّيَةَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْوِيتُ نَسَبِهِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ لَهُ؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَطْءُ كُلِّ وَاحِدٍ صَالِحٌ لِجَعْلِ الْوَلَدِ لَهُ، فَقَدْ فَوَّتَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ بِوَطْئِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ مَنْ كَانَ لَهُ الْوَلَدُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ لِأَحَدِهِمْ صَارَ مُفَوِّتًا لِنَسَبِهِ عَلَى صَاحِبَيْهِ فَأَجْرَى ذَلِكَ مَجْرَى إتْلَافِ الْوَلَدِ، وَنُزِّلَ الثَّلَاثَةُ مَنْزِلَةَ أَبٍ وَاحِدٍ، فَحِصَّةُ الْمُتْلِفُ مِنْهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ إذْ قَدْ عَادَ الْوَلَدُ لَهُ؛ فَيَغْرَمُ لِكُلٍّ مِنْ صَاحِبَيْهِ مَا يَخُصُّهُ، وَهُوَ ثُلُثُ الدِّيَةِ.

وَوَجْهٌ آخَرُ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا: أَنَّهُ لَمَّا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِمَا بِوَطْئِهِ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ شَرْعًا هِيَ دِيَتُهُ، فَلَزِمَهُ لَهُمَا ثُلُثَا قِيمَتِهِ وَهِيَ ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَصَارَ هَذَا كَمَنْ أَتْلَفَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ثُلُثَا الْقِيمَةِ لِشَرِيكَيْهِ؛ فَإِتْلَافُ الْوَلَدِ الْحُرِّ عَلَيْهِمَا بِحُكْمِ الْقُرْعَةِ كَإِتْلَافِ الرَّقِيقِ الَّذِي بَيْنَهُمْ، وَنَظِيرُ هَذَا تَضْمِينُ الصَّحَابَةِ الْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ الْأَمَةِ لَمَّا فَاتَ رِقُّهُمْ عَلَى السَّيِّدِ بِحُرِّيَّتِهِمْ، وَكَانُوا بِصَدَدِ أَنْ يَكُونُوا أَرِقَّاءَ لَهُ، وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ مَا يَكُونُ مِنْ الْقِيَاسِ وَأَدَقِّهِ، وَلَا يَهْتَدِي إلَيْهِ إلَّا أَفْهَامُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ هَذَا أَيْضًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، بَلْ هُوَ مَحْضُ الْفِقْهِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَلِهَذَا وَلَدُ الْحُرِّ مِنْ أَمَةِ الْغَيْرِ رَقِيقٌ، وَوَلَدُ الْعَبْدِ مِنْ الْحُرَّةِ حُرٌّ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ بِالْأَمَةِ رُقَّ نِصْفُهُ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِالْحُرَّةِ عَتَقَ نِصْفُهُ؛ فَوَلَدُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ بِهَذَا الْمَغْرُورِ كَانُوا بِصَدَدِ أَنْ يَكُونُوا أَرِقَّاءَ لِسَيِّدِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا دَخَلَ الزَّوْجُ عَلَى حُرِّيَّةِ الْمَرْأَةِ دَخَلَ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَوْلَادُهُ أَحْرَارًا، وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ اعْتِقَادَ الْوَاطِئِ، فَانْعَقَدَ وَلَدُهُ أَحْرَارًا، وَقَدْ فَوَّتَهُمْ عَلَى السَّيِّدِ، وَلَيْسَ مُرَاعَاةُ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْآخَرِ، وَلَا تَفْوِيتُ حَقِّ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ؛ فَحَفِظَ الصَّحَابَةُ الْحَقَّيْنِ وَرَاعُوا الْجَانِبَيْنِ، فَحَكَمُوا بِحُرِّيَّةِ الْأَوْلَادِ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُمْ رَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى حُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِ، وَلَوْ تَوَهَّمَ رِقَّهُمْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُضَيِّعُوا حَقَّ السَّيِّدِ، بَلْ حَكَمُوا عَلَى الْوَاطِئِ بِفِدَاءِ أَوْلَادِهِ، وَأَعْطُوا الْعَدْلَ حَقَّهُ؛ فَأَوْجَبُوا فِدَاءَهُمْ بِمِثْلِهِمْ تَقْرِيبًا لَا بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ وَفُّوا الْعَدْلَ بِأَنْ مَكَّنُوا الْمَغْرُورَ مِنْ الرُّجُوعِ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ؛ لِأَنَّ غُرْمَهُ كَانَ بِسَبَبِ غُرُورِهِ، وَالْقِيَاسُ وَالْعَدْلُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ تَسَبَّبَ إلَى إتْلَافِ مَالِ شَخْصٍ أَوْ تَغْرِيمِهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ

<<  <  ج: ص:  >  >>