للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَا غَرِمَهُ، كَمَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ؛ إذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ إتْلَافٌ بِسَبَبٍ، وَإِتْلَافُ الْمُتَسَبِّبِ كَإِتْلَافِ الْمُبَاشِرِ فِي أَصْلِ الضَّمَانِ.

فَإِنْ قِيلَ: وَبَعْدُ ذَلِكَ كُلِّهِ فَهَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ كَمَا هُوَ بَعْضُ الْأُمِّ وَجُزْءٌ مِنْهَا فَهُوَ بَعْضُ الْأَبِ، وَبَعْضِيَّتُهُ لِلْأَبِ أَعْظَمُ مِنْ بَعْضِيَّتِهِ لِلْأُمِّ، وَلِهَذَا إنَّمَا يَذْكُرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ تَخْلِيقَهُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ كَقَوْلِهِ: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: ٥] {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: ٦] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: ٧] وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: ٣٧] وَنَظَائِرُهَا مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي إنْ لَمْ تَخْتَصَّ بِمَاءِ الرَّجُلِ فَهِيَ فِيهِ أَظْهَرُ، وَإِذَا كَانَ جُزْءًا مِنْ الْوَطْءِ وَجُزْءًا مِنْ الْأُمِّ فَكَيْفَ كَانَ مِلْكًا لِسَيِّدِ الْأُمِّ دُونَ سَيِّدِ الْأَبِ؟ وَيُخَالِفُ الْقِيَاسَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْبَذْرِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ بَذْرَ غَيْرِهِ فَزَرَعَهُ فِي أَرْضِهِ كَانَ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْأَرْضِ.

قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ الْوَلَدَ مُنْعَقِدٌ مِنْ مَاءِ الْأَبِ كَمَا هُوَ مُنْعَقِدٌ مِنْ مَاءِ الْأُمِّ، وَلَكِنْ إنَّمَا تَكُونُ وَصَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي بَطْنِ الْأُمِّ؛ فَالْأَجْزَاءُ الَّتِي صَارَ بِهَا كَذَلِكَ مِنْ الْأُمِّ أَضْعَافُ أَضْعَافُ الْجُزْءِ الَّذِي مِنْ الْأَبِ، مَعَ مُسَاوَاتِهَا لَهُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ؛ فَهُوَ إنَّمَا تَكُونُ فِي أَحْشَائِهَا مِنْ لَحْمِهَا وَدَمِهَا، وَلَمَّا وَضَعَهُ الْأَبُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ أَصْلًا، بَلْ كَانَ كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ مَاءً مَهِينًا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلِهَذَا لَوْ نَزَا فَحْلُ رَجُلٍ عَلَى رَمَكَةِ آخَرَ كَانَ الْوَلَدُ لِمَالِكِ الْأُمِّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَذْرِ فَإِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لَهُ قِيمَةٌ قَبْلَ وَضْعِهِ فِي الْأَرْضِ يُعَاوَضُ عَلَيْهِ بِالْأَثْمَانِ، وَعَسْبُ الْفَحْلِ لَا يُعَاوَضُ عَلَيْهِ، فَقِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا طَرَدْتُمْ ذَلِكَ فِي النَّسَبِ، وَجَعَلْتُمُوهُ لِلْأُمِّ كَمَا جَعَلْتُمُوهُ لِلْأَبِ.

قِيلَ: قَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ لِلْأَبِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حِكْمَةُ اللَّهِ شَرْعًا وَقَدَرًا؛ فَإِنَّ الْأَبَ هُوَ الْمَوْلُودُ لَهُ، وَالْأُمُّ وِعَاءٌ وَإِنْ تَكَوَّنَ فِيهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْوَلَدَ خَلِيفَةَ أَبِيهِ وَشَجْنَتِهِ وَالْقَائِمَ مَقَامَهُ، وَوَضَعَ الْأَنْسَابَ بَيْنَ عِبَادِهِ؛ فَيُقَالُ: فُلَانٌ بْنُ فُلَانٍ، وَلَا تَتِمُّ مَصَالِحُهُمْ وَتَعَارُفُهُمْ وَمُعَامَلَاتُهُمْ إلَّا بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: ١٣] فَلَوْلَا ثُبُوتُ الْأَنْسَابِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ لَمَا حَصَلَ التَّعَارُفُ، وَلَفَسَدَ نِظَامُ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّ النِّسَاءَ مُحْتَجِبَاتٍ مَسْتُورَاتٍ عَنْ الْعُيُونِ؛ فَلَا يُمْكِنُ فِي الْغَالِبِ أَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>