تُعْرَفَ عَيْنُ الْأُمِّ فَيَشْهَدُ عَلَى نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهَا، فَلَوْ جُعِلَتْ الْأَنْسَابُ لِلْأُمَّهَاتِ لَضَاعَتْ وَفَسَدَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِلْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَلِهَذَا إنَّمَا يُدْعَى النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِآبَائِهِمْ لَا بِأُمَّهَاتِهِمْ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ يُدْعَى النَّاسُ بِآبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ بْنِ فُلَانٍ» .
فَكَانَ مِنْ تَمَامِ الْحِكْمَةِ أَنْ جَعَلَ الْحُرِّيَّةَ وَالرِّقَّ تَبَعًا لِلْأُمِّ، وَالنَّسَبَ تَبَعًا لِلْأَبِ، وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ إنَّمَا يَجْمَعُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ أَوْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا طَرَدْتُمْ ذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ، بَلْ جَعَلْتُمُوهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ، وَالْوَلَاءُ لَحْمَةٌ كَلَحْمَةِ النَّسَبِ.
قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْوَلَاءُ مِنْ آثَارِ الرِّقِّ وَمُوجَبَاتُهُ كَانَ تَابِعًا لَهُ فِي حُكْمِهِ، فَكَانَ لِمَوَالِي الْأُمِّ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِ شَائِبَةُ النَّسَبِ وَهُوَ لَحْمَةٌ كَلَحْمَتِهِ رَجَعَ إلَى مَوَالِي الْأَبِ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ عَنْ مَوَالِي الْأُمِّ، فَرُوعِيَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَثَرَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلْتُمْ الْوَلَدَ فِي الدَّيْنِ تَابِعًا لِمَنْ لَهُ النَّسَبُ، بَلْ أَلْحَقْتُمُوهُ بِأَبِيهِ تَارَةً وَبِأُمِّهِ تَارَةً.
قِيلَ: الطِّفْلُ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا تَابِعًا لِغَيْرِهِ؛ فَجَعَلَهُ الشَّارِعُ تَابِعًا لِخَيْرِ أَبَوَيْهِ فِي الدِّينِ تَغْلِيبًا لِخَيْرِ الدِّينَيْنِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ التَّبَعِيَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْبَعَ مَنْ هُوَ عَلَى دِينِ الشَّيْطَانِ، وَتَنْقَطِعُ تَبَعِيَّتُهُ عَمَّنْ هُوَ عَلَى دِينِ الرَّحْمَنِ؛ فَهَذَا مُحَالٌ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَرْعِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَاجْعَلُوهُ تَابِعًا لِسَابِيهِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ تَبَعِيَّتَهُ لِأَبَوَيْهِ قَدْ انْقَطَعَتْ وَصَارَ السَّابِي هُوَ أَحَقَّ بِهِ.
قِيلَ: نَعَمْ، وَهَكَذَا نَقُولُ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ إمَامِ أَهْلِ الشَّامِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَام ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِسَابِيهِ إذَا سُبِيَ وَحْدَهُ، قَالُوا: لِأَنَّ تَبَعِيَّتَهُ قَدْ انْقَطَعَتْ عَنْ أَبَوَيْهِ وَصَارَ تَابِعًا لِسَابِيهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا سُبِيَ مَعَ أَحَدِهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَالثَّانِي لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ عَنْ أَبَوَيْهِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إنْ سُبِيَ مَعَ الْأَبِ