الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ تَقْلِيدُ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُسْتَرَاحٌ لِمُقَلِّدِي مَنْ هُوَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِمَّنْ لَا يُدَانِي الصَّحَابَةَ وَلَا يُقَارِبُهُمْ، فَإِنْ كَانَ كَمَا زَعَمْتُمْ لَكُمْ أُسْوَةٌ بِعُمَرَ فَقَلِّدُوا أَبَا بَكْرٍ وَاتْرُكُوا تَقْلِيدَ غَيْرِهِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَمِيعُ عِبَادِهِ يَحْمَدُونَكُمْ عَلَى هَذَا التَّقْلِيدِ مَا لَا يَحْمَدُونَكُمْ عَلَى تَقْلِيدِ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ لِأَئِمَّتِهِمْ لَمْ يَسْتَحْيُوا مِمَّا اسْتَحْيَا مِنْهُ عُمَرُ؛ لِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مَعَهُ - وَلَا يَسْتَحْيُونَ مِنْ ذَلِكَ - لِقَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، بَلْ قَدْ صَرَّحَ بَعْضُ غُلَاتِهِمْ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْأُصُولِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيَجِبُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ.
فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ الَّذِي أَوْجَبَ تَقْلِيدَ الشَّافِعِيِّ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ تَقْلِيدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَنَحْنُ نُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْنَا شَهَادَةً نُسْأَلُ عَنْهَا يَوْمَ نَلْقَاهُ أَنَّهُ إذَا صَحَّ عَنْ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ اللَّذَيْنِ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّبَاعِهِمَا وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا قَوْلٌ وَأَطْبَقَ أَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى خِلَافِهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَنَحْمَدُ اللَّهَ أَنْ عَافَانَا مِمَّا ابْتَلَى بِهِ مَنْ حَرَّمَ تَقْلِيدَهُمَا وَأَوْجَبَ تَقْلِيدَ مَتْبُوعِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَوْ صَحَّ تَقْلِيدُ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ رَاحَةٌ لِمُقَلِّدِي مَنْ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ بِتَقْلِيدِهِ، وَلَا جَعَلَهُ عِيَارًا عَلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَا هُوَ جَعَلَ نَفْسَهُ كَذَلِكَ.
الْخَامِسُ: أَنَّ غَايَةَ هَذَا أَنْ يَكُونَ عُمَرُ قَدْ قَلَّدَ أَبَا بَكْرٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَلْ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ أَقْوَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ مَنْ سِوَاهُ بَلْ وَلَا إلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ إلَّا إذَا وَافَقَتْ نُصُوصَ قَوْلِهِ؟ ، فَهَذَا وَاَللَّهِ هُوَ الَّذِي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ اللَّهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْأُمَّةِ إلَّا بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْلُهُمْ: إنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: رَأْيُنَا لِرَأْيِك تَبَعٌ؛ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُحْتَجَّ بِهَذَا سَمِعَ النَّاسَ يَقُولُونَ كَلِمَةً تَكْفِي الْعَاقِلَ فَاقْتَصَرَ مِنْ الْحَدِيثِ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَاكْتَفَى بِهَا، وَالْحَدِيثُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ إبْطَالًا لِقَوْلِهِ؛ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ وَفْدُ بُزَاخَةَ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ إلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلُونَ الصُّلْحَ، فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ وَالسِّلْمِ الْمُخْزِيَةِ، فَقَالُوا: هَذِهِ الْمُجْلِيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْمُخْزِيَةُ؟ قَالَ: نَنْزِعُ مِنْكُمْ الْحَلْقَةَ وَالْكُرَاعَ، وَنَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا لَكُمْ، وَتَرُدُّونَ لَنَا مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا، وَتَدُونَ لَنَا قَتْلَانَا، وَتَكُونُ قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، وَتَتْرُكُونَ أَقْوَامًا يَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ حَتَّى يُرِيَ اللَّهُ خَلِيفَةَ رَسُولِهِ وَالْمُهَاجِرِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ، فَعَرَضَ أَبُو بَكْرٍ مَا قَالَ عَلَى الْقَوْمِ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْت رَأْيًا سَنُشِيرُ عَلَيْك: أَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ وَالسِّلْمِ الْمُخْزِيَةِ فَنِعْمَ مَا ذَكَرْت، وَمَا ذَكَرْت مِنْ أَنْ نَغْنَمَ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ وَتَرُدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا فَنِعْمَ مَا ذَكَرْت، وَأَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ أَنْ تَدُونَ قَتْلَانَا وَتَكُونُ قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ فَإِنَّ قَتْلَانَا قَاتَلَتْ فَقُتِلَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute