فَرَجَعَ إلَى ذَلِكَ، وَخَفِيَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِيرَاثُ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ السُّدُسُ حَتَّى ذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَّثَهَا ذَلِكَ.
وَخَفِيَ عَلَى ابْنِ الْعَبَّاسِ تَحْرِيمُ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ حَتَّى ذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَخَفِيَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ حُكْمُ الْمُفَوِّضَةِ وَتَرَدَّدُوا إلَيْهِ فِيهَا شَهْرًا فَأَفْتَاهُمْ بِرَأْيِهِ ثُمَّ بَلَغَهُ النَّصُّ بِمِثْلِ مَا أَفْتَى بِهِ.
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَوْ تَتَبَّعْنَاهُ لَجَاءَ سِفْرًا كَبِيرًا، فَنَسْأَلُ حِينَئِذٍ فِرْقَةَ التَّقْلِيدِ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ بَعْضُ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى سَادَاتِ الْأُمَّةِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ قَالُوا " لَا يَخْفَى عَلَيْهِ " وَقَدْ خَفِيَ عَلَى الصَّحَابَةِ مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِمْ بَلَغُوا فِي الْغُلُوِّ مَبْلَغَ مُدَّعِي الْعِصْمَةِ فِي الْأَئِمَّةِ، وَإِنْ قَالُوا: " بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ " وَهُوَ الْوَاقِعُ وَهُمْ مَرَاتِبُ فِي الْخَفَاءِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، قُلْنَا: فَنَحْنُ نُنَاشِدُكُمْ اللَّهَ الَّذِي هُوَ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ وَقَلْبِهِ، وَإِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا خَفِيَ عَلَى مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ هَلْ تَبْقَى لَكُمْ الْخِيَرَةُ بَيْنَ قَبُولِ قَوْلِهِ وَرَدِّهِ أَمْ تَنْقَطِعُ خِيَرَتُكُمْ وَتُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَيْنًا لَا يَجُوزُ سِوَاهُ؟ فَأَعِدُّوا لِهَذَا السُّؤَالِ جَوَابًا، وَلِلْجَوَابِ صَوَابًا؛ فَإِنَّ السُّؤَالَ وَاقِعٌ، وَالْجَوَابَ لَازِمٌ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي مَنَعَنَا مِنْ التَّقْلِيدِ، فَأَيْنَ مَعَكُمْ حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ تَقْطَعُ الْعُذْرَ وَتُسَوِّغُ لَكُمْ مَا ارْتَضَيْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ التَّقْلِيدِ؟
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَكُمْ " صَوَابُ الْمُقَلِّدِ فِي تَقْلِيدِهِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَقْرَبُ مِنْ صَوَابِهِ فِي اجْتِهَادِهِ " دَعْوَى بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَلَّدَ مَنْ قَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ نَظِيرُهُ أَوْ أَعْلَمُ مِنْهُ لَمْ يَدْرِ عَلَى صَوَابٍ هُوَ مِنْ تَقْلِيدِهِ أَوْ عَلَى خَطَأٍ، بَلْ هُوَ - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - حَاطِبُ لَيْلٍ إمَّا أَنْ يَقَعَ بِيَدِهِ عُودٌ أَوْ أَفْعَى تَلْدَغُهُ، وَأَمَّا إذَا بَذَلَ اجْتِهَادَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَإِنَّهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَظْفَرَ بِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِمَّا أَنْ يُخْطِئَهُ فَلَهُ أَجْرٌ، فَهُوَ مُصِيبٌ لِلْأَجْرِ وَلَا بُدَّ، بِخِلَافِ الْمُقَلِّدِ الْمُتَعَصِّبِ فَإِنَّهُ إنْ أَصَابَ لَمْ يُؤْجَرْ، وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ الْإِثْمِ، فَأَيْنَ صَوَابُ الْأَعْمَى مِنْ صَوَابِ الْبَصِيرِ الْبَاذِلِ جَهْدَهُ؟
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ إذَا عَرَفَ أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ مَنْ قَلَّدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ مُقَلِّدًا لَهُ، بَلْ مُتَّبِعًا لِلْحُجَّةِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ مِنْ بَاذِلِ جَهْدِهِ وَمُسْتَفْرِغِ وُسْعِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ؟ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ عِنْدَ تَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ مَنْ امْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فَرَدَّ مَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute