للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ كَانَ يَزُورُ قُبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَزُورُهُمْ فِي دُورِهِمْ وَيَعُودُ مَرَضَاهُمْ وَيَشْهَدُ جَنَائِزَهُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

[نَقْلُ التَّقْرِيرِ]

وَأَمَّا نَقْلُ التَّقْرِيرِ فَكَنَقْلِهِمْ إقْرَارَهُ لَهُمْ عَلَى تَلْقِيحِ النَّخْلِ، وَعَلَى تِجَارَاتِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَتَّجِرُونَهَا، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: تِجَارَةُ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَتِجَارَةُ الْإِدَارَةِ، وَتِجَارَةُ السَّلَمِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مِنْهَا تِجَارَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الرِّبَا الصَّرِيحَ وَوَسَائِلَهُ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ أَوْ التَّوَسُّلَ بِتِلْكَ الْمَتَاجِرِ إلَى الْحَرَامِ كَبَيْعِ السِّلَاحِ لِمَنْ يُقَاتِلُ بِهِ الْمُسْلِمَ وَبَيْعِ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا وَبَيْعِ الْحَرِيرِ لِمَنْ يَلْبَسُهُ مِنْ الرِّجَالِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُعَاوَنَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.

وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى صَنَائِعِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ تِجَارَةٍ وَخِيَاطَةٍ وَصِيَاغَةٍ وَفِلَاحَةٍ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْغِشَّ وَالتَّوَسُّلَ بِهَا إلَى الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى إنْشَادِ الْأَشْعَارِ الْمُبَاحَةِ وَذِكْرِ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُسَابَقَةَ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى الْمُهَادَنَةِ فِي السَّفَرِ، وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى الْخُيَلَاءِ فِي الْحَرْبِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ فِيهِ وَإِعْلَامِ الشُّجَاعِ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ بِعَلَامَةٍ مِنْ رِيشَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى لُبْسِ مَا نَسَجَهُ الْكُفَّارُ مِنْ الثِّيَابِ، وَعَلَى إنْفَاقِ مَا ضَرَبُوهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَرُبَّمَا كَانَ عَلَيْهَا صُوَرُ مُلُوكِهِمْ، وَلَمْ يَضْرِبْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خُلَفَاؤُهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِضَرْبِ الْكُفَّارِ. وَكَإِقْرَارِهِ لَهُمْ بِحَضْرَتِهِ عَلَى الْمِزَاحِ الْمُبَاحِ، وَعَلَى الشِّبَعِ فِي الْأَكْلِ، وَعَلَى النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ، وَعَلَى شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ، وَهَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ السُّنَنِ احْتَجَّ بِهِ الصَّحَابَةُ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ.

وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ جَابِرٌ فِي تَقْرِيرِ الرَّبِّ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ كَقَوْلِهِ: " كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَنْهَى عَنْهُ لَنَهَى عَنْهُ الْقُرْآنُ " وَهَذَا مِنْ كَمَالِ فِقْهِ الصَّحَابَةِ وَعِلْمِهِمْ، وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى مَعْرِفَةِ طُرُقِ الْأَحْكَامِ وَمَدَارِكِهَا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْلَ الْأَفْعَالِ الْإِبَاحَةُ، وَلَا يَحْرُمُ مِنْهَا إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، الثَّانِي: أَنَّ عِلْمَ الرَّبِّ تَعَالَى بِمَا يَفْعَلُونَ فِي زَمَنِ شَرْعِ الشَّرَائِعِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ وَإِقْرَارُهُ لَهُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى عَفْوِهِ عَنْهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَالْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ اسْتِصْحَابًا، وَفِي الثَّانِي يَكُونُ الْعَفْوُ عَنْهُ تَقْرِيرًا لِحُكْمِ الِاسْتِصْحَابِ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ تَقْرِيرُهُ لَهُمْ عَلَى أَكْلِ الزُّرُوعِ الَّتِي تُدَاسُ بِالْبَقَرِ، مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ لَهُمْ بِغَسْلِهَا، وَقَدْ عَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تَبُولَ وَقْتَ الدِّيَاسِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُهُ لَهُمْ عَلَى الْوُقُودِ فِي بُيُوتِهِمْ وَعَلَى أَطْعِمَتِهِمْ بِأَرْوَاثِ الْإِبِلِ وَأَخْثَاءَ الْبَقَرِ وَأَبْعَارِ الْغَنَمِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ دُخَانَهَا وَرَمَادَهَا يُصِيبُ ثِيَابَهُمْ وَأَوَانِيَهُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِاجْتِنَابِ ذَلِكَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ وَلَا بُدَّ: طَهَارَةُ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّ دُخَانَ النَّجَاسَةِ وَرَمَادَهَا لَيْسَ بِنَجِسٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>