للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَا يُرَجَّحُ بِهِ أَيْضًا أَحَدُ الِاجْتِهَادَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي يَعْقُوبَ الرَّازِيّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ مُنْتَابٍ وَالطَّيَالِسِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي الْفَرَجِ وَالشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الْأَبْهَرِيِّ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبًا لِمَالِكٍ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ مُعْتَمَدِي أَصْحَابِهِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ بِهِ اجْتِهَادُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِ غَيْرِهِمْ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ إجْمَاعَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ حُجَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ خِلَافُهُ، كَإِجْمَاعِهِمْ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، وَهَذَا مَذْهَبُ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُعَدِّلِ وَأَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّ فِي رِسَالَةِ مَالِكٍ إلَى اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُصْعَبٍ فِي مُخْتَصَرِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي عُمَرَ فِي مَسْأَلَتِهِ الَّتِي صَنَّفَهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ نَقْضًا لِكَلَامِهِ عَلَى أَصْحَابِنَا فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَإِلَى هَذَا يَذْهَبُ جُلُّ أَصْحَابِنَا الْمَغَارِبَةُ أَوْ جَمِيعُهُمْ.

فَأَمَّا حَالُ الْأَخْبَارِ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فَلَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِبَهَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُطَابِقًا لَهَا، أَوْ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ بِخِلَافِهَا، أَوْ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُمْ عَمَلٌ أَصْلًا لَا بِخِلَافٍ وَلَا بِوِفَاقٍ؛ فَإِنْ كَانَ عَمَلُهُمْ مُوَافِقًا لَهَا كَانَ ذَلِكَ آكَدَ فِي صِحَّتِهَا وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا، إذَا كَانَ الْعَمَلُ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ كَانَ مُرَجِّحًا لِلْخَبَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُمْ بِخِلَافِهِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الْمَذْكُورُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَإِنَّ الْخَبَرَ يُتْرَكُ لِلْعَمَلِ عِنْدَنَا، لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ، وَهَذَا أَكْبَرُ الْغَرَضِ بِالْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهَذَا كَمَا نَقُولُهُ فِي الصَّاعِ وَالْمُدِّ وَزَكَاةِ الْخَضْرَاوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مِنْهُمْ اجْتِهَادًا فَالْخَبَرُ أَوْلَى مِنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، إلَّا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ حُجَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ عَمَلٌ يُوَافِقُ مُوجِبَ الْخَبَرِ أَوْ يُخَالِفُهُ فَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَبَرِ؛ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ مُنْفَرِدٌ عَنْ مُسْقِطٍ أَوْ مُعَارِضٍ.

هَذَا جُمْلَةُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ مَا حَكَاهُ أَنَّ عَمَلَهُمْ الْجَارِي مَجْرَى النَّقْلِ حُجَّةٌ، فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ بَنَى الْمَسْأَلَةَ وَقَرَّرَهَا، وَقَالَ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُمْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ نَقْلًا أَوْ عَمَلًا مُتَّصِلًا فَإِنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ مَعْلُومٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ، وَيَنْقَطِعُ الْعُذْرُ فِيهِ، وَيَجِبُ تَرْكُ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَدِينَةَ بَلْدَةٌ جَمَعَتْ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَى نَقْلِهِ، فَمَا هَذَا سَبِيلُهُ إذَا وَرَدَ خَبَرٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِهِ كَانَ حُجَّةً عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>