للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ الْخَبَرِ وَتُرِكَ لَهُ، كَمَا لَوْ رُوِيَ لَنَا خَبَرٌ وَاحِدٌ فِيمَا تَوَاتَرَ بِهِ نَقْلُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ لَوَجَبَ تَرْكُ الْخَبَرِ لِلنَّقْلِ الْمُتَوَاتِر مِنْ جَمِيعِهِمْ، فَيُقَالُ: مِنْ الْمُحَالِ عَادَةً أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ نَقْلًا أَوْ عَمَلًا مُتَّصِلًا مِنْ عِنْدِهِمْ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَتَكُونُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ قَدْ خَالَفَتْهُ، هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْبَاطِلِ؛ وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ لَمْ تُضْمَنْ لِاجْتِهَادِهِمْ، فَلَمْ يُجْمِعُوا مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ وَلَا الْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ عَلَى بُطْلَانِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَلَا عَلَى التَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا عَلَى الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَلَا عَلَى تَرْكِ الرَّفْعِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَلَا عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ، وَلَا عَلَى تَرْكِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ، كَيْفَ وَقُدَمَاؤُهُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا الْعِلْمَ الصَّحِيحَ الثَّابِتَ الَّذِي كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ؟ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ تَرْكَهُ عَمَلٌ مُسْتَمِرٌّ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْآنَ؟ هَذَا مِنْ الْمُحَالِ، بَلْ نَقْلُهُمْ لِلصَّاعِ وَالْمُدِّ وَالْوُقُوفِ وَالْأَخَايِرِ وَتَرْكُ زَكَاةِ الْخَضْرَاوَاتِ حَقٌّ، وَلَمْ يَأْتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ تُخَالِفُهُ أَلْبَتَّةَ، وَلِهَذَا رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ لَمَّا نَاظَرَهُ مَالِكٌ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ؛ فَلَا يَلْحَقُ بِهَذَا عَمَلُهُمْ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ نَقْلًا مُتَّصِلًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتُتْرَكُ لَهُ السُّنَنُ الثَّابِتَةُ، فَهَذَا لَوْنٌ وَذَلِكَ لَوْنٌ، وَبِهَذَا التَّمْيِيزِ وَالتَّفْصِيلِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ وَيَظْهَرُ الصَّوَابُ.

وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَمَلَ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ كَانَ بِحَسَبِ مَنْ فِيهَا مِنْ الْمُفْتِينَ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُحْتَسِبِينَ عَلَى الْأَسْوَاقِ، وَلَمْ تَكُنْ الرَّعِيَّةُ تُخَالِفُ هَؤُلَاءِ، فَإِذَا أَفْتَى الْمُفْتُونَ نَفَّذَهُ الْوَالِي، وَعَمِلَ بِهِ الْمُحْتَسِبِ، وَصَارَ عَمَلًا، فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ فِي مُخَالَفَةِ السُّنَنِ، لَا عَمَلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ وَالصَّحَابَةِ فَذَاكَ هُوَ السُّنَّةُ، فَلَا يُخْلَطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَنَحْنُ لِهَذَا الْعَمَلِ أَشَدُّ تَحْكِيمًا، وَلِلْعَمَلِ الْآخَرِ إذَا خَالَفَ السُّنَّةَ أَشَدُّ تَرْكًا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَقَدْ كَانَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُفْتِي وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ الْمُحْتَسِبُ يُنَفِّذُ فَتْوَاهُ فَتَعْمَلُ الرَّعِيَّةُ بِفَتْوَى هَذَا وَتَنْفِيذِ هَذَا، كَمَا يَطَّرِدُ الْعَمَلُ فِي بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قَوْلُ مَالِكٍ عَلَى قَوْلِهِ وَفَتْوَاهُ، وَلَا يُجَوِّزُونَ الْعَمَلَ هُنَاكَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، فَلَوْ عَمِلَ بِهِ أَحَدٌ لَاشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ إلَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ الْعَمَلَ الْمُسْتَمِرَّ عِنْدَهُمْ عَلَى قَوْلِهِ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ اطَّرَدَ عِنْدَهُمْ عَمَلُ مَنْ وَصَلَ إلَيْهِمْ قَوْلُهُ وَمَذْهَبُهُ وَلَمْ يَأْلَفُوا غَيْرَهُ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْعَمَلِ بَيْنَ بَلَدٍ وَبَلَدٍ، وَالْعَمَلُ الصَّحِيحُ مَا وَافَقَ السُّنَّةَ. وَإِذَا أَرَدْت وُضُوحَ ذَلِكَ فَانْظُرْ الْعَمَلَ فِي زَمَنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

<<  <  ج: ص:  >  >>