وَفِي السُّنَنِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ» وَلَا رَيْبَ أَنَّ وُجُوبَ الطَّهَارَةِ وَسَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ آكَدُ مِنْ وُجُوبِهَا فِي الطَّوَافِ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِلَا طَهَارَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ بَاطِلَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْعُرْيَانِ، وَأَمَّا طَوَافُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ وَالْعُرْيَانِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَإِنْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَالِ، بَلْ وَكَذَلِكَ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ وَوَاجِبَاتُهَا آكَدُ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَوَاجِبَاتِهِ، فَإِنَّ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ إذَا تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ، وَوَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ إذَا تَرَكَهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِذَا نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ رَكْعَةً عَمْدًا لَمْ تَصِحَّ، وَلَوْ طَافَ سِتَّةَ أَشْوَاطٍ صَحَّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ نَكَّسَ الصَّلَاةَ لَمْ تَصِحَّ، وَلَوْ نَكَّسَ الطَّوَافَ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَلَوْ صَلَّى مُحْدِثًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَلَوْ طَافَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا صَحَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَغَايَةُ الطَّوَافِ أَنْ يُشَبَّهَ بِالصَّلَاةِ.
وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَغَايَةُ هَذِهِ إذَا طَافَتْ مَعَ الْحَيْضِ لِلضَّرُورَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَافَتْ عُرْيَانَةً لِلضَّرُورَةِ؛ فَإِنَّ نَهْيَ الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ عَنْ الْأَمْرَيْنِ وَاحِدٌ، بَلْ السِّتَارَةُ فِي الطَّوَافِ آكَدُ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ طَوَافَ الْعُرْيَانِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَطَوَافَ الْحَائِضِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالسُّنَّةِ وَحْدَهَا؛ الثَّانِي أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ فِي الطَّوَافِ وَخَارِجِهِ؛ الثَّالِثُ: أَنَّ طَوَافَ الْعُرْيَانِ أَقْبَحُ شَرْعًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً مِنْ طَوَافِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ؛ فَإِذَا صَحَّ طَوَافُهَا مَعَ الْعُرْيِ لِلْحَاجَةِ فَصِحَّةُ طَوَافِهَا مَعَ الْحَيْضِ لِلْحَاجَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَا يُقَالُ " فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهَا وَصَوْمُهَا مَعَ الْحَيْضِ لِلْحَاجَةِ " لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُوهَا إلَى ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ صَلَاتَهَا زَمَنَ الطُّهْرِ مُغْنِيَةً لَهَا عَنْ صَلَاتِهَا فِي الْحَيْضِ وَكَذَلِكَ صِيَامَهَا، وَهَذِهِ لَا يُمْكِنُهَا [أَنْ] تَتَعَوَّضَ فِي حَالِ طُهْرِهَا بِغَيْرِ الْبَيْتِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ سِرَّ الْمَسْأَلَةِ وَفِقْهَهَا، وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ قَسَّمَ الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَائِضِ إلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٍ يُمْكِنُهَا التَّعَوُّض عَنْهُ فِي زَمَنِ الطُّهْرِ فَلَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهَا فِي الْحَيْضِ، بَلْ أَسْقَطَهُ إمَّا مُطْلَقًا كَالصَّلَاةِ وَإِمَّا إلَى بَدَلِهِ زَمَنَ الطُّهْرِ كَالصَّوْمِ. وَقِسْمٍ لَا يُمْكِنُ التَّعَوُّضُ عَنْهُ وَلَا تَأْخِيرُهُ إلَى زَمَنِ الطُّهْرِ فَشَرَعُهُ لَهَا مَعَ الْحَيْضِ أَيْضًا كَالْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَتَوَابِعُهُ، وَمِنْ هَذَا جَوَازُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لَهَا وَهِيَ حَائِضٌ؛ إذْ لَا يُمْكِنُهَا التَّعَوُّضُ عَنْهَا زَمَنَ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ قَدْ يَمْتَدُّ بِهَا غَالِبُهُ أَوْ أَكْثَرُهُ، فَلَوْ مُنِعَتْ مِنْ الْقِرَاءَةِ لَفَاتَتْ عَلَيْهَا مَصْلَحَتُهَا، وَرُبَّمَا نَسِيَتْ مَا حَفِظَتْهُ زَمَنَ طُهْرِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمْنَعْ الْحَائِضَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَحَدِيثُ «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ» لَمْ يَصِحَّ؛ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute