للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بُكَيْر عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْعَةِ الْيَمَامَةِ أَلْفٌ وَمِائَتَا رَجُلٍ مِنْهُمْ سَبْعُونَ مِنْ الْقُرَّاءِ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْيَمَامَةِ وَأُصِيبَ فِيهِمْ عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقُرَّائِهِمْ فَزِعَ أَبُو بَكْرٍ إلَى الْقُرْآنِ، وَخَافَ أَنْ يَهْلِكَ مِنْهُ طَائِفَةٌ، وَكُلُّ صَحَابِيٍّ مِنْ لَدُنْ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ كَانَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ فَتْوَى أَوْ إقْرَارًا أَوْ سُكُوتًا، وَلِهَذَا ادَّعَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ قَدِيمٌ، وَلَمْ تُجْمِعْ الْأُمَّةُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى خِلَافِهِ، بَلْ لَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مَنْ يُفْتِي بِهِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَإِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَأَفْتَى بِهِ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: " إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِفَمٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ " وَأَفْتَى أَيْضًا بِالثَّلَاثِ، أَفْتَى بِهَذَا وَهَذَا.

وَأَفْتَى بِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، حَكَاهُ عَنْهُمَا ابْنُ وَضَّاحٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَابْنِ مَسْعُودٍ رِوَايَتَانِ كَمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَأَفْتَى بِهِ عِكْرِمَةُ، رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْهُ، وَأَفْتَى بِهِ طَاوُسٌ، وَأَمَّا تَابِعُو التَّابِعِينَ فَأَفْتَى بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْهُ، وَأَفْتَى بِهِ خِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَأَمَّا أَتْبَاعُ تَابِعِي التَّابِعِينَ فَأَفْتَى بِهِ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو الْمُفْلِسِ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا، وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، حَكَاهُ التِّلْمِسَانِيُّ فِي شَرْحِ تَفْرِيعِ ابْنِ الْجَلَّابِ قَوْلًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.

وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ، وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، حَكَاهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْهُ، قَالَ: وَكَانَ الْجَدُّ يُفْتِي بِهِ أَحْيَانًا.

وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ نَفْسُهُ فَقَدْ قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاحِدَةً» بِأَيِّ شَيْءٍ تَدْفَعُهُ؟ قَالَ: بِرِوَايَةِ النَّاسِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وُجُوهٍ خِلَافَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ عِدَّةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا ثَلَاثٌ؛ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْقَوْلَ بِهِ لِمُخَالَفَةِ رِوَايَةٍ لَهُ، وَأَصْلُ مَذْهَبِهِ وَقَاعِدَتِهِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا صَحَّ لَمْ يَرُدَّهُ لِمُخَالَفَةِ رِوَايَةٍ لَهُ، بَلْ الْأَخْذُ بِمَا رَوَاهُ، كَمَا فَعَلَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفَتْوَاهُ فِي بَيْعِ الْأَمَةِ فَأَخَذَ بِرِوَايَتِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا، وَتَرَكَ رَأْيَهُ، وَعَلَى أَصْلِهِ يَخْرُجُ لَهُ قَوْلُ إنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ؛ فَإِنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْحَدِيثَ لِمُخَالَفَةِ الرَّاوِي وَصَرَّحَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الرَّاوِي لَا تُوجِبُ تَرْكَ الْحَدِيثِ خَرَجَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، وَأَصْحَابُهُ يُخَرِّجُونَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَقْوَالًا دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ وَالْإِجْمَاعُ الْقَدِيمُ، وَلَمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>