تَوْسِعَةٌ مِنْ اللَّهِ لِعِبَادِهِ؛ إذْ جَعَلَ الطَّلَاقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَمَا كَانَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَمْ يَمْلِكْ الْمُكَلَّفُ إيقَاعَ مَرَّاتِهِ كُلِّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً كَاللِّعَانِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ " كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ حَلَفَ فِي الْقَسَامَةِ وَقَالَ: " أُقْسِمُ بِاَللَّهِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّ هَذَا قَاتِلُهُ " كَانَ ذَلِكَ يَمِينًا وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ بِالزِّنَا: " أَنَا أُقِرُّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنِّي زَنَيْت " كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ فَمَنْ يَعْتَبِرُ الْأَرْبَعَ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ إلَّا إقْرَارًا وَاحِدًا، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» فَلَوْ قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ» لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ حَتَّى يَقُولَهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» الْحَدِيثَ؛ لَا يَكُونُ عَامِلًا بِهِ حَتَّى يَقُولَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَلَا يَجْمَعُ الْكُلَّ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ» لَا يَحْصُلُ هَذَا إلَّا بِقَوْلِهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: ٥٨] وَهَكَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، فَإِنْ أَذِنَ لَك وَإِلَّا فَارْجِعْ» لَوْ قَالَ الرَّجُلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ هَكَذَا كَانَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً حَتَّى يَسْتَأْذِنَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَلْفَاظِ فَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْأَفْعَالِ سَوَاءٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: ١٠١] إنَّمَا هُوَ مَرَّةٌ بَعْدَ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ " رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ " إنَّمَا هُوَ مَرَّةٌ بَعْدَ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ» فَهَذَا الْمَعْقُولُ مِنْ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ الْمَذْكُورَةُ وقَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: ٢٢٩] كُلُّهَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَمِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تُفَسِّرُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: ٢٢٩] كَمَا أَنَّ حَدِيثَ اللِّعَانِ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: ٦] .
فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَهَذَا عُرْفُ التَّخَاطُبِ، وَهَذَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ مَعَهُ فِي عَصْرِهِ وَثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ عَصْرِ عُمَرَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ؛ فَلَوْ عَدَّهُمْ الْعَادُّ بِأَسْمَائِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا لَوَجَدَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الثَّلَاثَ وَاحِدَةً إمَّا بِفَتْوَى وَإِمَّا بِإِقْرَارٍ عَلَيْهَا، وَلَوْ فُرِضَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَرَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا لِلْفَتْوَى بِهِ، بَلْ كَانُوا مَا بَيْنَ مُفْتٍ وَمُقِرٍّ بِفُتْيَا وَسَاكِتٍ غَيْرِ مُنْكِرٍ.
وَهَذَا حَالُ كُلِّ صَحَابِيٍّ مِنْ عَهْدِ الصِّدِّيقِ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى الْأَلْفِ قَطْعًا كَمَا ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute