[الْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ]
فَانْظُرْ مُلْتَقَى الْبَحْرَيْنِ، وَمُعْتَرَكَ الْفَرِيقَيْنِ، فَقَدْ أَبْرَزَ كُلٌّ مِنْهُمَا حُجَّتَهُ، وَخَاضَ بَحْرَ الْعِلْمِ فَبَلَغَ مِنْهُ لُجَّتَهُ، وَأَدْلَى مِنْ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ بِمَا لَا يُدْفَعُ، وَقَالَ مَا هُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ قُلْ يُسْمَعْ، وَحُجَجُ اللَّهِ لَا تَتَعَارَضُ، وَأَدِلَّةُ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ، وَالْحَقُّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَا يَقْبَلُ مُعَارَضَةً وَلَا نَقْصًا، وَحَرَامٌ عَلَى الْمُقَلِّدِ الْمُتَعَصِّبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الطِّرَازِ الْأَوَّلِ، أَوْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِ وَبَحْثِهِ إذَا حَقَّتْ الْحَقَائِقُ الْمُعَوَّلُ، فَلْيُجَرِّبْ الْمُدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ وَالْمُدَّعِي فِي قَوْمٍ لَيْسَ مِنْهُمْ نَفْسُهُ وَعِلْمُهُ وَمَا حَصَّلَهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْقَضَاءُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمُتَغَالِبَيْنِ، وَلْيُبْطِلْ الْحُجَجَ وَالْأَدِلَّةَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، لِيَسْلَمَ لَهُ قَوْلُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ حَدَّهُ، وَلَا يَتَعَدَّى طَوْرَهُ، وَلَا يَمُدُّ إلَى الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعًا يَقْصُرُ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ، وَلَا يَتَّجِرُ بِنَقْدٍ زَائِفٍ لَا يُرَوِّجُ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَقَالَيْنِ إلَّا مَنْ تَجَرَّدَ لِلَّهِ مُسَافِرًا بِعَزْمِهِ وَهِمَّتِهِ إلَى مَطْلَعِ الْوَحْيِ، مُنَزِّلًا نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَلَقَّاهُ غَضًّا طَرِيًّا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُ عَلَيْهِ آرَاءَ الرِّجَالِ وَلَا يَعْرِضُهُ عَلَيْهَا، وَيُحَاكِمُهَا إلَيْهِ وَلَا يُحَاكِمُهُ إلَيْهَا، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ:
[وُضِعَتْ الْأَلْفَاظُ لِتَعْرِيفِ مَا فِي النَّفْسِ]
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الْأَلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلَالَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْآخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الْإِرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ الْأَلْفَاظِ، وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، وَلَا عَلَى مُجَرَّدِ أَلْفَاظٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا لَمْ يُرِدْ مَعَانِيَهَا وَلَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا، بَلْ تَجَاوَزَ لِلْأُمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تُكَلِّمْ بِهِ، وَتَجَاوَزَ لَهَا عَمَّا تَكَلَّمَتْ بِهِ مُخْطِئَةً أَوْ نَاسِيَةً أَوْ مُكْرَهَةً أَوْ غَيْرَ عَالِمَةٍ بِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُرِيدَةً لِمَعْنَى مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ أَوْ قَاصِدَةً إلَيْهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَصْدُ وَالدَّلَالَةُ الْقَوْلِيَّةُ أَوْ الْفِعْلِيَّةُ تَرَتَّبَ الْحُكْمُ. هَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ عَدْلِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَإِنَّ خَوَاطِرَ الْقُلُوبِ وَإِرَادَةَ النُّفُوسِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ، فَلَوْ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ لَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ عَلَى الْأُمَّةِ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ تَأْبَى ذَلِكَ، وَالْغَلَطُ وَالنِّسْيَانُ وَالسَّهْوُ وَسَبْقُ اللِّسَانِ بِمَا لَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ بَلْ يُرِيدُ خِلَافَهُ وَالتَّكَلُّمُ بِهِ مُكْرَهًا وَغَيْرَ عَارِفٍ لِمُقْتَضَاهُ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ الْإِنْسَانُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ؛ فَلَوْ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ لَحَرَجَتْ الْأُمَّةُ وَأَصَابَهَا غَايَةُ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ؛ فَرَفَعَ عَنْهَا الْمُؤَاخَذَةَ بِذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى الْخَطَأِ فِي اللَّفْظِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ وَالْغَضَبِ وَالسُّكْرِ كَمَا تَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute