للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَسُولِهِ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ يُبْطِلُ حُكْمَ الدَّلَالَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْ الذَّرَائِعِ، فَإِذَا بَطَلَ الْأَقْوَى مِنْ الدَّلَائِلِ بَطَلَ الْأَضْعَفُ مِنْ الذَّرَائِعِ كُلِّهَا، وَبَطَلَ الْحَدُّ فِي التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ.

فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إذَا تَشَاتَمَ الرَّجُلَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: " مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ " حُدَّ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَهُ عَلَى الْمُشَاتَمَةِ فَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ بِهِ قَذْفَ الَّذِي يُشَاتِمُ وَأُمَّهُ، وَإِنْ قَالَهُ عَلَى غَيْرِ الْمُشَاتَمَةِ لَمْ أَحُدَّهُ إذَا قَالَ: " لَمْ أُرِدْ الْقَذْفَ " مَعَ إبْطَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمَ التَّعْرِيضِ فِي حَدِيثِ الْفَزَارِيِّ الَّذِي وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ عُمَرَ حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ فِي مِثْلِ هَذَا، قِيلَ: اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَخَالَفَهُ بَعْضُهُمْ، وَمَعَ مَنْ خَالَفَهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ.

وَيُبْطِلُ مِثْلَهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ " لِأَنَّ الطَّلَاقَ إيقَاعُ طَلَاقٍ ظَاهِرٍ، وَأَلْبَتَّةَ تَحْتَمِلُ زِيَادَةً فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ وَغَيْرَ زِيَادَةٍ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الَّذِي يَحْتَمِلُ غَيْرَ الظَّاهِرِ، حَتَّى لَا يَحْكُمَ عَلَيْهِ أَبَدًا إلَّا بِظَاهِرٍ، وَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الَّذِي يَحْتَمِلُ غَيْرَ الظَّاهِرِ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ عَقْدٌ إلَّا بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ، وَلَا يَفْسُدُ بِشَيْءٍ تَقَدَّمَهُ وَلَا تَأَخَّرَهُ، وَلَا بِتَوَهُّمٍ، وَلَا بِالْأَغْلَبِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ لَا يَفْسُدُ إلَّا بِعَقْدِهِ. وَلَا يُفْسِدُ الْبُيُوعَ بِأَنْ يَقُولَ: هَذِهِ ذَرِيعَةٌ، وَهَذِهِ نِيَّةُ سُوءٍ، وَلَوْ كَانَ أَنْ يُبْطِلَ الْبُيُوعَ بِأَنْ تَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا كَانَ الْيَقِينُ فِي الْبُيُوعِ بِعَقْدِ مَا لَا يَحِلُّ أَوْلَى أَنْ يُرِيدَ بِهِ مِنْ الظَّنِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ اشْتَرَى سَيْفًا وَنَوَى بِشِرَائِهِ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ مُسْلِمًا كَانَ الشِّرَاءُ حَلَالًا، وَكَانَتْ النِّيَّةُ بِالْقَتْلِ غَيْرَ جَائِزَةٍ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِهَا الْبَيْعُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ سَيْفًا مِنْ رَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ رَجُلًا كَانَ هَذَا هَكَذَا.

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا شَرِيفًا نَكَحَ دَنِيَّةً أَعْجَمِيَّةً أَوْ شَرِيفَةً نَكَحَتْ دَنِيًّا أَعْجَمِيًّا فَتَصَادَقَا فِي الْوَجْهَيْنِ عَلَى إنْ لَمْ يَنْوِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَنْ يَثْبُتَ عَلَى النِّكَاحِ أَكْثَرَ مِنْ لَيْلَةٍ لَمْ يُحَرَّمْ النِّكَاحُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ عَقْدِهِ كَانَ صَحِيحًا إنْ شَاءَ الزَّوْجُ حَبَسَهَا وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا.

فَإِذَا دَلَّ الْكِتَابُ ثُمَّ السُّنَّةُ ثُمَّ عَامَّةُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِظَاهِرِ عَقْدِهَا لَا تُفْسِدُهَا نِيَّةُ الْعَاقِدِينَ كَانَتْ الْعُقُودُ إذَا عُقِدَتْ فِي الظَّاهِرِ صَحِيحَةً، وَلَا تَفْسُدُ بِتَوَهُّمِ غَيْرِ عَاقِدِهَا عَلَى عَاقِدِهَا، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ تَوَهُّمًا ضَعِيفًا، انْتَهَى كَلَامُ الشَّافِعِيِّ.

وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْهَازِلَ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ كَالْجَادِّ بِهَا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ حَقَائِقَ هَذِهِ الْعُقُودِ، وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَحِلُّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلَالَةٌ عَلَى إلْغَاءِ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ فِي الْعُقُودِ، وَإِبْطَالُ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَاتِّبَاعُ ظَوَاهِرِ عُقُودِ النَّاسِ وَأَلْفَاظِهِمْ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>