السَّبْتِ؛ إذْ لَوْ اجْتَرَءُوا عَلَى ذَلِكَ لَاسْتَخْرَجُوهَا، قَالَ شَيْخُنَا: وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكْفُرُوا بِالتَّوْرَاةِ وَبِمُوسَى، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَأْوِيلًا وَاحْتِيَالًا ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ الِاتِّقَاءِ وَحَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الِاعْتِدَاءِ، وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مُسِخُوا قِرَدَةً لِأَنَّ صُورَةَ الْقِرْدِ فِيهَا شَبَهٌ مِنْ صُورَةِ الْإِنْسَانِ، وَفِي بَعْضِ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ شَبَهٌ مِنْهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، فَلَمَّا مَسَخَ أُولَئِكَ الْمُعْتَدُونَ دِينَ اللَّهِ بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَسَّكُوا إلَّا بِمَا يُشْبِهُ الدِّينَ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ مَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً تُشْبِهُ الْإِنْسَانَ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، جَزَاءً وِفَاقًا.
وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ أَكَلُوا الرِّبَا وَأَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُعَاقِبْ أُولَئِكَ بِالْمَسْخِ كَمَا عُوقِبَ بِهِ مَنْ اسْتَحَلَّ الْحَرَامَ بِالْحِيلَةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانُوا أَعْظَمَ جُرْمًا كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَعْظَمَ، فَإِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَعْتَرِفُونَ بِالذَّنْبِ بَلْ قَدْ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ، بِخِلَافِ مَنْ أَكَلَ الرِّبَا وَأَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ فَإِنَّهُ يَقْتَرِنُ بِمَعْصِيَتِهِ اعْتِرَافُهُ بِالتَّحْرِيمِ وَخَشْيَتُهُ لِلَّهِ وَاسْتِغْفَارُهُ وَتَوْبَتُهُ يَوْمًا مَا، وَاعْتِرَافُهُ بِأَنَّهُ مُذْنِبٌ عَاصٍ، وَانْكِسَارُ قَلْبِهِ مِنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ، وَازْدِرَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَرَجَاؤُهُ لِمَغْفِرَةِ رَبِّهِ لَهُ، وَعَدُّ نَفْسِهِ مِنْ الْمُذْنِبِينَ الْخَاطِئِينَ، وَهَذَا كُلُّهُ إيمَانٌ يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إلَى خَيْرٍ، بِخِلَافِ الْمَاكِرِ الْمُخَادِعِ الْمُحْتَالِ عَلَى قَلْبِ دِينِ اللَّهِ، وَلِهَذَا حَذَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّتَهُ مِنْ ارْتِكَابِ الْحِيَلِ فَقَالَ: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْقَرْيَةَ أَوْ هَذِهِ الْفَعْلَةِ الَّتِي فَعَلَهَا بِأَهْلِهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.
فَحَقِيقٌ بِمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَخَافَ نَكَالَهُ أَنْ يَحْذَرَ اسْتِحْلَالَ مَحَارِمِ اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُخَلِّصُهُ مِنْ اللَّهِ مَا أَظْهَرَهُ مَكْرًا وَخَدِيعَةً مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لِلَّهِ يَوْمًا تَكِعُّ فِيهِ الرِّجَالُ، وَتُنْسَفُ فِيهِ الْجِبَالُ، وَتَتَرَادَفُ فِيهِ الْأَهْوَالُ، وَتَشْهَدُ فِيهِ الْجَوَارِحُ وَالْأَوْصَالُ، وَتُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، وَتَظْهَرُ فِيهِ الضَّمَائِرُ، وَيَصِيرُ الْبَاطِلُ فِيهِ ظَاهِرًا، وَالسِّرُّ عَلَانِيَةً، وَالْمَسْتُورُ مَكْشُوفًا، وَالْمَجْهُولُ مَعْرُوفًا، وَيُحَصَّلُ وَيَبْدُو مَا فِي الصُّدُورِ، كَمَا يُبَعْثَرُ وَيَخْرُجُ مَا فِي الْقُبُورِ، وَتَجْرِي أَحْكَامُ الرَّبِّ تَعَالَى هُنَالِكَ عَلَى الْقُصُودِ وَالنِّيَّاتِ، كَمَا جَرَتْ أَحْكَامُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَقْوَالِ وَالْحَرَكَاتِ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ بِمَا فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهَا مِنْ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ لِلْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ بِمَا فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهَا مِنْ الْخَدِيعَةِ وَالْغِشِّ وَالْكَذِبِ وَالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ، هُنَالِكَ يَعْلَمُ الْمُخَادِعُونَ أَنَّهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانُوا يَخْدَعُونَ، وَبِدِينِهِمْ كَانُوا يَلْعَبُونَ، وَمَا يَمْكُرُونَ إلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute