للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الْأَعْمَالُ تَابِعَةٌ لِمَقَاصِدِ عَامِلِهَا]

وَقَدْ فَصَّلَ قَوْلُهُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى» الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْحِيَلِ وَأَنْوَاعِهَا.

فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَابِعَةٌ لِمَقَاصِدِهَا وَنِيَّاتِهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ إلَّا مَا نَوَاهُ وَأَبْطَنَهُ لَا مَا أَعْلَنَهُ وَأَظْهَرَهُ، وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ مَنْ نَوَى التَّحْلِيلَ كَانَ مُحَلِّلًا، وَمَنْ نَوَى الرِّبَا بِعَقْدِ التَّبَايُعِ كَانَ رَابِيًا، وَمَنْ نَوَى الْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ كَانَ مَاكِرًا مُخَادِعًا.

وَيَكْفِي هَذَا الْحَدِيثُ وَحْدَهُ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ، وَلِهَذَا صَدَّرَ بِهِ حَافِظُ الْأُمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ إبْطَالَ الْحِيَلِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْطَلَ ظَاهِرَ هِجْرَةِ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ بِمَا أَبْطَنَهُ وَنَوَاهُ مِنْ إرَادَةِ أُمِّ قَيْسٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» .

" فَاسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ: فِيهِ إبْطَالُ الْحِيَلِ، وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَلْزَمَ الْبَيْعُ مَشَى خُطُوَاتٍ، وَلَا إشْكَالَ بِحَمْدِ اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِ حَقِّ مَنْ لَهُ حَقٌّ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ حِكْمَةً وَمَصْلَحَةً لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلِيَحْصُلَ تَمَامُ الرِّضَى الَّذِي شَرَطَهُ تَعَالَى فِيهِ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَقَعُ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ تَرَوٍّ وَلَا نَظَرٍ فِي الْقِيمَةِ، فَاقْتَضَتْ مَحَاسِنُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ أَنْ يَجْعَلَ لِلْعَقْدِ حَرِيمًا يَتَرَوَّى فِيهِ الْمُتَبَايِعَانِ، وَيُعِيدَانِ النَّظَرَ، وَيَسْتَدْرِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْبًا كَانَ خَفِيًّا.

فَلَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ، وَلَا أَرْفَقَ لِمَصْلَحَةِ الْخَلْقِ؛ فَلَوْ مَكَّنَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْغَابِنَ لِلْآخَرِ مِنْ النُّهُوضِ فِي الْحَالِ وَالْمُبَادَرَةِ إلَى التَّفَرُّقِ لَفَاتَتْ مَصْلَحَةُ الْآخَرِ، وَمَقْصُودُ الْخِيَارِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَهَبْ أَنَّك أَنْتَ اخْتَرْت إمْضَاءَ الْبَيْعِ فَصَاحِبُكَ لَمْ يَتَّسِعْ لَهُ وَقْتٌ يَنْظُرُ فِيهِ وَيَتَرَوَّى، فَنُهُوضُك حِيلَةٌ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ الْخِيَارِ، فَلَا يَجُوزُ حَتَّى يُخَيِّرَهُ؛ فَلَوْ فَارَقَ الْمَجْلِسَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْحَاجَةِ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْصِدْ إبْطَالَ حَقِّ الْآخَرِ مِنْ الْخِيَارِ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ، وَلَا يُقَالُ: هُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى إسْقَاطِ حَقِّ الْآخَرِ مِنْ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ بَابَ سَدِّ الذَّرَائِعِ مَتَى فَاتَتْ بِهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ أَوْ تَضَمَّنَ مَفْسَدَةً رَاجِحَةً لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ.

فَلَوْ مَنَعَ الْعَاقِدَ مِنْ التَّفَرُّقِ حَتَّى يَقُومَ الْآخَرُ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِهِ وَمَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ؛ فَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ فِي ذَلِكَ أَكْمَلُ شَيْءٍ وَأَوْفَقُهُ لِلْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>