للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِبْطَالِهَا، وَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، بَلْ هِيَ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ وَآكَدِهَا، وَمَنْ جَعَلَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَقَدْ اسْتَوْثَقَ لِدِينِهِ.

بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا، وَأَقَرَّهُ سَائِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَفْتَى عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحِلُّ بِنِكَاحِ التَّحْلِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ كَأُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ نَهَوْا الْمُقْرِضَ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَجَعَلُوا قَبُولَهَا رِبًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ تَحْرِيمُ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ، وَالتَّغْلِيظُ فِيهَا، وَأَفْتَى عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمَبْثُوثَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ تَرِثُ، وَوَافَقَهُمْ سَائِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَبَيْعَةُ الرِّضْوَانِ وَمَنْ عَدَاهُمْ.

وَهَذِهِ وَقَائِعُ مُتَعَدِّدَةٌ لِأَشْخَاصٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي أَزْمَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالْعَادَةُ تُوجِبُ اشْتِهَارَهَا وَظُهُورَهَا بَيْنَهُمْ، لَا سِيَّمَا وَهَؤُلَاءِ أَعْيَانُ الْمُفْتِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانَتْ تَضْبِطُ أَقْوَالَهُمْ، وَتَنْتَهِي إلَيْهِمْ فَتَاوِيهمْ، وَالنَّاسُ عُنُقٌ وَاحِدٌ إلَيْهِمْ مُتَلَقُّونَ لِفَتَاوِيهِمْ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ الْإِنْكَارُ وَلَا إبَاحَةُ الْحِيَلِ مَعَ تَبَاعُدِ الْأَوْقَاتِ وَزَوَالِ أَسْبَابِ السُّكُوتِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالْعِينَةِ وَهَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ إلَى الْمُقْرِضِ فَمَاذَا يَقُولُونَ فِي التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ لِإِسْقَاطِ حُقُوقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِخْرَاجِ الْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ عَنْ مِلْكِ أَرْبَابِهَا، وَتَصْحِيحِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّلَاعُبِ بِالدِّينِ؟ وَقَدْ صَانَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرَوْا فِي وَقْتِهِمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَوْ يُفْتِي بِهِ، كَمَا صَانَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْحُلُولِيَّةِ وَالِاتِّحَادِيَّة وَأَضْرَابِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عَنْهُمْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحِيَلِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِمْ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا.

وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَكُلُّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْآثَارِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِهِ ثُمَّ أَنْصَفَ لَمْ يَشُكَّ أَنَّ تَقْرِيرَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَإِبْطَالِهَا وَمُنَافَاتِهَا لِلدِّينِ أَقْوَى مِنْ تَقْرِيرِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُدَّعَى فِيهِ إجْمَاعُهُمْ، كَدَعْوَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَعَلَى الْإِلْزَامِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.

فَإِذَا وَازَنْت بَيْنَ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَتِلْكَ الْإِجْمَاعَاتِ ظَهَرَ لَك التَّفَاوُتُ، وَانْضَمَّ إلَى هَذَا أَنَّ التَّابِعِينَ مُوَافِقُونَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ السَّبْعَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>