أَخَذُوا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ مُتَّفِقُونَ عَلَى إبْطَالِ الْحِيَلِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ كَأَيُّوبَ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّهُ انْضَمَّ إلَى كَثْرَةِ فَتَاوِيهِمْ بِالتَّحْرِيمِ فِي أَفْرَادِ هَذَا الْأَصْلِ وَانْتِشَارِهَا أَنَّ عَصْرَهُمْ انْصَرَمَ، وَبُقَعُ الْإِسْلَامِ مُتَّسِعَةٌ، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَقَدْ اتَّسَعَتْ الدُّنْيَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمَ اتِّسَاعٍ، وَكَثُرَ مَنْ كَانَ يَتَعَدَّى الْحُدُودَ، وَكَانَ الْمُقْتَضِي لِوُجُودِ هَذِهِ الْحِيَلِ مَوْجُودًا فَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَفْتَى بِحِيلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَوْ أَمَرَ بِهَا أَوْ دَلَّ عَلَيْهَا، بَلْ الْمَحْفُوظُ عَنْهُمْ النَّهْيُ وَالزَّجْرُ عَنْهَا؛ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيَلُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ لَأَفْتَى بِجَوَازِهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلَكَانَتْ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ كَغَيْرِهَا، بَلْ أَقْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ مُتَّفِقَةٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَالْمَنْعِ مِنْهَا، وَمَضَى عَلَى أَثَرِهِمْ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فِي الْإِنْكَارِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ الدَّيْدَانِيِّ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ فِي الْحِيَلِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ عَمَّنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ احْتَالَ لِإِبْطَالِهَا، فَقَالَ: نَحْنُ لَا نَرَى الْحِيلَةَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَصَارَ إلَيْهَا فَقَدْ صَارَ إلَى ذَلِكَ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَقَالَ: مَنْ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَهُوَ حَانِثٌ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَأَبِي الْحَارِثِ وَقَدْ ذَكَرَ قَوْلَ أَصْحَابِ الْحِيَلِ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ وَقَدْ سَأَلَ عَمَّنْ احْتَالَ فِي إبْطَالِ الشُّفْعَةِ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي إبْطَالِ حَقِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ وَيَنْوِي غَيْرَ ذَلِكَ: فَالْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ مَا يَحْلِفُهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَظْلُومًا، فَإِذَا كَانَ مَظْلُومًا حَلَفَ عَلَى نِيَّتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ نِيَّةِ الَّذِي حَلَفَهُ شَيْءٌ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ مَنْصُورٍ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ كِتَابُ الْحِيَلِ فِي بَيْتِهِ يُفْتِي بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
[مَنْ ذَكَرُوا الْحِيَلَ لَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ كُلَّهَا جَائِزٌ]
قُلْت: وَاَلَّذِينَ ذَكَرُوا الْحِيَلَ لَمْ يَقُولُوا إنَّهَا كُلَّهَا جَائِزٌ، وَإِنَّمَا أَخْبَرُوا أَنَّ كَذَا حِيلَةٌ وَطَرِيقٌ إلَى كَذَا، ثُمَّ قَدْ تَكُونُ الطَّرِيقُ مُحَرَّمَةً، وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً، وَقَدْ يُخْتَلَفُ فِيهَا، فَإِذَا قَالُوا: الْحِيلَةُ فِي فَسْخِ الْمَرْأَةِ النِّكَاحَ أَنْ تَرْتَدَّ ثُمَّ تُسْلِمَ، وَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَمَّنْ قَتَلَ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَنْ يَقْتُلَ امْرَأَتَهُ إذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مِنْهُ، وَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَمَّنْ أَرَادَ الْوَطْءَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute