للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَيْهِمْ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا لِقِيَامِ مَصَالِحِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ؟

فَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ شَرَعَهَا الَّذِي عَلِمَ مَا فِي ضِمْنِهَا مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ وَمَا فِي خِلَافِهَا مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ لَهَا لِذَاتِهَا وَبَائِنٌ مِنْ أَمْرِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَا وَنَهْيِهِ عَنْهَا، فَالْمَأْمُورُ بِهِ مَصْلَحَةٌ وَحَسَنٌ فِي نَفْسِهِ، وَاكْتَسَى بِأَمْرِ الرَّبِّ تَعَالَى مَصْلَحَةً وَحُسْنًا آخَرَ، فَازْدَادَ حُسْنًا بِالْأَمْرِ وَمَحَبَّةِ الرَّبِّ وَطَلَبِهِ لَهُ إلَى حُسْنِهِ فِي نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَفْسَدَةٌ وَقَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَازْدَادَ بِنَهْيِ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْهُ وَبُغْضِهِ لَهُ وَكَرَاهِيَتِهِ لَهُ قُبْحًا إلَى قُبْحِهِ، وَمَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقَلِبَ حَسَنُهُ قُبْحًا بِتَغَيُّرِ الِاسْمِ وَالصُّورَةِ مَعَ بَقَاءِ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ حَرَّمَ بَيْعَ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ التَّشَاحُنِ وَالتَّشَاجُرِ، وَلِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ - إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ - مِنْ أَكْلِ مَالِ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ لَا تَزُولُ بِالتَّحَيُّلِ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ؛ فَإِنَّ الْحِيلَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي زَوَالِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَلَا فِي تَخْفِيفِهَا، وَلَا فِي زَوَالِ ذَرَّةٍ مِنْهَا؛ فَمَفْسَدَةُ هَذَا الْعَقْدِ أَمْرٌ ثَابِتٌ لَهُ لِنَفْسِهِ، فَالْحِيلَةُ إنْ لَمْ تَزِدْهُ فَسَادًا لَمْ تُزِلْ فَسَادًا، وَكَذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِبْرَاءَ لِإِزَالَةِ مَفْسَدَةِ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْأَنْسَابِ وَسَقْيِ الْإِنْسَانِ بِمَائِهِ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تُوجِبُ الْعُقُولُ تَحْرِيمَهُ لَوْ لَمْ تَأْتِ بِهِ شَرِيعَةٌ، وَلِهَذَا فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَى اسْتِهْجَانِهِ وَاسْتِقْبَاحِهِ، وَيَرَوْنَ مِنْ أَعْظَمِ الْهُجَنِ أَنْ يَقُومَ هَذَا عَنْ الْمَرْأَةِ وَيُخْلِفَهُ الْآخَرُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا حُرِّمَ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ وَأَوْجَبَ الْعِدَدَ وَالِاسْتِبْرَاءَ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ لَا تَزُولُ بِالْحِيلَةِ عَلَى إسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَا تَخِفُّ، وَكَذَلِكَ شُرِعَ الْحَجُّ إلَى بَيْتِهِ لِأَنَّهُ قِوَامٌ لِلنَّاسِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَلَوْ عُطِّلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ عَامًا وَاحِدًا عَنْ الْحَجِّ لَمَا أُمْهِلَ النَّاسُ، وَلَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَلَمْ يَحُجَّ بِالْمَوْتِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحَيُّلَ لِإِسْقَاطِهِ لَا يُزِيلُ مَفْسَدَةَ التَّرْكِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ تَحَيَّلُوا لِتَرْكِ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ هَذَيْنِ الْفَرْضَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وَارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ حُكْمُهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقِيلَ لِلنَّاسِ: إنْ شِئْتُمْ كُلُّكُمْ أَنْ تَتَحَيَّلُوا لِإِسْقَاطِهِمَا فَافْعَلُوا، فَلْيَتَصَوَّرْ الْعَبْدُ مَا فِي إسْقَاطِهِمَا مِنْ الْفَسَادِ الْمُضَادِّ لِشَرْعِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ.

وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى زَوَاجِرَ لِلنُّفُوسِ وَعُقُوبَةً وَنَكَالًا وَتَطْهِيرًا، فَشَرْعُهَا مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، بَلْ لَا تَتِمُّ سِيَاسَةُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ إلَّا بِزَوَاجِرَ وَعُقُوبَاتٍ لِأَرْبَابِ الْجَرَائِمِ، وَمَعْلُومٌ مَا فِي التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِهَا مِنْ مُنَافَاةِ هَذَا الْغَرَضِ وَإِبْطَالِهِ وَتَسْلِيطِ النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ عَلَى تِلْكَ الْجِنَايَاتِ إذَا عَلِمْت أَنَّ لَهَا طَرِيقًا إلَى إبْطَالِ عُقُوبَاتِهَا فِيهَا، وَأَنَّهَا تُسْقِطُ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ؛ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهَا أَلْبَتَّةَ بَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهَا فِيهَا وَبَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>