للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيْنَ الْقِيَاسُ وَالنَّظَرُ فِي الْمَعَانِي الْمُؤَثِّرَةِ وَغَيْرِ الْمُؤَثِّرَةِ فَرْقًا وَجَمْعًا؟ وَالْكَلَامُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَتَنْقِيحِهِ وَتَخْرِيجِهِ وَإِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِالْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ الَّتِي لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ، فَكَيْفَ يُعَلِّقُهُ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ لِضِدِّ الْحُكْمِ؟ وَكَيْفَ يُعَلِّقُ الْأَحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ وَالصُّوَرِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا وَيَدَعُ الْمَعَانِيَ الْمُنَاسِبَةَ الْمُفْضِيَةَ لَهَا الَّتِي ارْتِبَاطُهَا بِهَا كَارْتِبَاطِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ بِمَعْلُولَاتِهَا؟ وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ يُنْكِرُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الظَّاهِرِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِظَوَاهِرِ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ حَيْثُ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ ثُمَّ يَتَمَسَّكُ بِظَوَاهِرِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَقْوَالِهِمْ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَاطِنَ وَالْقَصْدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ؟ وَيَعْلَمُ لَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا يَقْطَعُ بِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ إيجَابِ الزَّكَاةِ سَدُّ خَلَّةِ الْمَسَاكِينِ وَذَوِي الْحَاجَاتِ وَحُصُولُ الْمَصَالِحِ الَّتِي أَرَادَهَا بِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنْ حِمَايَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا أَسْقَطَهَا بِالتَّحَيُّلِ فَقَدْ خَالَفَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ وَحَصَلَ مَقْصُودُ الْمُتَحَيِّلِ، وَالْوَاجِبُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَنْ يَحْصُلَ مَقْصُودُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَبْطُلَ مَقَاصِدَ الْمُتَحَيِّلِينَ الْمُخَادِعِينَ، وَكَذَلِكَ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ

[إنَّمَا] حَرَّمَ الرِّبَا لِمَنْ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْمَحَاوِيجِ، وَأَنَّ مَقْصُودَهُ إزَالَةُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ؛ فَإِذَا أُبِيحَ التَّحَيُّلُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ سَعْيًا فِي إبْطَالِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَتَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمُرَابِي، وَهَذِهِ سَبِيلُ جَمِيعِ الْحِيَلِ الْمُتَوَسَّلِ بِهَا إلَى تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ، وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ تَبْطُلُ جَمِيعًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَحَيِّلَ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ مُبْطِلٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ حِكْمَةِ الِاسْتِبْرَاءِ وَمَصْلَحَتِهِ؛ فَالْمُعِينُ [لَهُ] عَلَى ذَلِكَ مُفَوِّتٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ مُحَصِّلٌ لِمَقْصُودِ الْمُتَحَيِّلِ، وَكَذَلِكَ التَّحَيُّلُ عَلَى إبْطَالِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي مَلَّكَهُمْ إيَّاهَا الشَّارِعُ وَجَعَلَهُمْ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ إزَالَةً لِضَرَرِهِمْ وَتَحْصِيلًا لِمَصَالِحِهِمْ؛ فَلَوْ أَبَاحَ التَّحَيُّلَ لِإِسْقَاطِهَا لَكَانَ عَدَمُ إثْبَاتِهَا لِلْمُسْتَحِقِّينَ أَوْلَى وَأَقَلَّ ضَرَرًا مِنْ أَنْ يُثْبِتَهَا وَيُوصِيَ بِهَا وَيُبَالِغَ فِي تَحْصِيلِهَا ثُمَّ يُشَرِّعَ التَّحَيُّلَ لِإِبْطَالِهَا وَإِسْقَاطِهَا، وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَنَى بِنَاءً مَشِيدًا وَبَالَغَ فِي إحْكَامِهِ وَإِتْقَانِهِ، ثُمَّ عَادَ فَنَقَضَهُ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ أَمَرَ بِإِكْرَامِ رَجُلٍ وَالْمُبَالَغَةِ فِي بِرِّهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ وَأَدَاءِ حُقُوقِهِ، ثُمَّ أَبَاحَ لِمَنْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَحَيَّلَ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ لِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ حُقُوقِهِ، وَلِهَذَا يُسِيءُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ وَمَنْ فِي قُلُوبِهِمْ الْمَرَضُ الظَّنَّ بِالْإِسْلَامِ وَالشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَعَلِمُوا مُنَاقَضَتَهَا لِلْمَصَالِحِ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً وَمُنَافَاتَهَا لِحِكْمَةِ الرَّبِّ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِمَايَتِهِ وَصِيَانَتِهِ لِعِبَادِهِ؛ فَإِنَّهُ نَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ حَمِيَّةً وَصِيَانَةً، فَكَيْف يُبِيحُ لَهُمْ الْحِيَلَ عَلَى مَا حَمَاهُمْ عَنْهُ؟ وَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُمْ التَّحَيُّلَ عَلَى إسْقَاطِ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى إضَاعَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي أَحَقَّهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>