للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحَدُهَا: إبْطَالُهَا مَا فِي الْأَمْرِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ وَنَقْضِ حِكْمَتِهِ فِيهِ وَمُنَاقَضَتِهِ لَهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ الْمُحْتَالَ بِهِ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ حَقِيقَةً، وَلَا هُوَ مَقْصُودُهُ، بَلْ هُوَ ظَاهِرُ الْمَشْرُوعِ؛ فَالْمَشْرُوعُ لَيْسَ مَقْصُودًا لَهُ، وَالْمَقْصُودُ لَهُ هُوَ الْمُحَرَّمُ نَفْسُهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ كُلَّ الظُّهُورِ فِيمَا يَقْصِدُ الشَّارِعُ؛ فَإِنَّ الْمُرَابِيَ مَثَلًا مَقْصُودُهُ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ، وَصُورَةُ الْبَيْعِ الْجَائِزِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُتَحَيِّلُ عَلَى إسْقَاطِ الْفَرَائِضِ بِتَمْلِيكِ مَالِهِ لِمَنْ لَا يَهَبُهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا حَقِيقَةُ مَقْصُودِهِ إسْقَاطُ الْفَرْضِ، وَظَاهِرُ الْهِبَةِ الْمَشْرُوعَةِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لَهُ.

الثَّالِثُ: نِسْبَتُهُ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ الْحَكِيمِ وَإِلَى شَرِيعَتِهِ الَّتِي هِيَ غِذَاءُ الْقُلُوبِ وَدَوَاؤُهَا وَشِفَاؤُهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَحَيَّلَ حَتَّى قَلَبَ الْغِذَاءَ وَالدَّوَاءَ إلَى ضِدِّهِ، فَجَعَلَ الْغِذَاءَ دَوَاءً وَالدَّوَاءَ غِذَاءً، إمَّا بِتَغْيِيرِ اسْمِهِ أَوْ صُورَتِهِ مَعَ بَقَاءِ حَقِيقَتِهِ؛ لَأَهْلَكَ النَّاسَ، فَمَنْ عَمَدَ إلَى الْأَدْوِيَةِ الْمُسَهِّلَةِ فَغَيَّرَ صُورَتَهَا أَوْ أَسْمَاءَهَا وَجَعَلَهَا غِذَاءً لِلنَّاسِ، أَوْ عَمَدَ إلَى السَّمُومِ الْقَاتِلَةِ فَغَيَّرَ أَسْمَاءَهَا وَصُورَتَهَا وَجَعَلَهَا أَدْوِيَةً، أَوْ إلَى الْأَغْذِيَةِ الصَّالِحَةِ فَغَيَّرَ أَسْمَاءَهَا وَصُوَرَهَا؛ كَانَ سَاعِيًا بِالْفَسَادِ فِي الطَّبِيعَةِ، كَمَا أَنَّ هَذَا سَاعٍ بِالْفَسَادِ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لِلْقُلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ وَالدَّوَاءِ لِلْأَبْدَانِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَقَائِقِهَا لَا بِأَسْمَائِهَا وَصُوَرِهَا.

وَبَيَانُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِشَارَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ الرِّبَا وَالزِّنَا وَتَوَابِعَهُمَا وَوَسَائِلَهُمَا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ، وَأَبَاحَ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ وَتَوَابِعَهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْبَيْعُ مِثْلَ الرِّبَا وَالنِّكَاحُ مِثْلَ الزِّنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَرْقَ فِي الصُّورَةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ مُلْغَى عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي فِطْرِ عِبَادِهِ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ إذَا اخْتَلَفَتْ وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ كَانَ حُكْمُهَا وَاحِدًا، فَإِذَا اتَّفَقَتْ الْأَلْفَاظُ وَاخْتَلَفَتْ الْمَعَانِي كَانَ حُكْمُهَا مُخْتَلِفًا، وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ إذَا اخْتَلَفَتْ صُوَرُهَا وَاتَّفَقَتْ مَقَاصِدُهَا، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُبْنَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ صِحَّةَ هَذَا؛ فَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ بِهِ عَلَى الْمُحَرَّمِ صُورَتُهُ صُورَةُ الْحَلَالِ، وَحَقِيقَتُهُ وَمَقْصُودُهُ حَقِيقَةُ الْحَرَامِ؛ فَلَا يَكُونُ حَلَالًا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَلَالِ فَيَقَعُ بَاطِلًا، وَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ حَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ الْحَرَامِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صُورَتُهُ صُورَتَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا لِمُشَارَكَتِهِ لِلْحَرَامِ فِي الْحَقِيقَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>