للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَعْرُوفُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُوجِبُهُ فِي شَرْعِنَا لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْنَا بِمَا يُخَالِفُ شَرْعَنَا مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلِنَا؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا: " لَيْسَ شَرْعًا لَنَا مُطْلَقًا " فَظَاهِرٌ، وَإِنْ قُلْنَا: " هُوَ شَرْعٌ لَنَا " فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ مُخَالَفَتِهِ لِشَرْعِنَا، وَقَدْ انْتَفَى الشَّرْطُ.

وَأَيْضًا؛ فَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَةَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْفُتْيَا خَاصَّةَ الْحُكْمِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَامَّةَ الْحُكْمِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ لَمْ يَخْفَ عَلَى نَبِيٍّ كَرِيمٍ مُوجِبَ يَمِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي اقْتِصَاصِهَا عَلَيْنَا كَبِيرُ عِبْرَةٍ؛ فَإِنَّمَا يَقُصُّ مَا خَرَجَ عَنْ نَظَائِرِهِ لِنَعْتَبِرَ بِهِ وَنَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْنَا، أَمَّا مَا كَانَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَادَةِ وَالْقِيَاسِ فَلَا يَقُصُّ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: ٤٤] .

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ كَمَا فِي نَظَائِرِهَا؛ فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا أَفْتَاهُ بِهَذَا جَزَاءً لَهُ عَلَى صَبْرِهِ، وَتَخْفِيفًا عَنْ امْرَأَتِهِ، وَرَحْمَةً بِهَا، لَا أَنَّ هَذَا مُوجِبُ هَذِهِ الْيَمِينِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا أَفْتَاهُ بِهَذِهِ الْفُتْيَا لِئَلَّا يَحْنَثَ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى.

فَصْلٌ [مَتَى شُرِعَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ؟]

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ، بَلْ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ إلَّا الْبِرُّ وَالْحِنْثَ، كَمَا هُوَ ثَابِتُ فِي نَذْرِ التَّبَرُّرِ فِي شَرِيعَتِنَا؛ وَكَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ نَذَرَ ضَرْبَهَا، وَهُوَ نَذْرٌ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ تَكْفِيرَ النَّذْرِ فَرْعٌ عَنْ تَكْفِيرِ الْيَمِينِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ كَفَّارَةُ النَّذْرِ إذْ ذَاكَ مَشْرُوعَةً فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ أَوْلَى، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ يُحْتَذَى بِهِ حَذْوَ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ، وَإِذَا كَانَ الضَّرْبُ الْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ يَجِبُ تَفْرِيقُهُ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ صَحِيحًا وَيَجُوزُ جَمْعُهُ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ مَرِيضًا مَيْئُوسًا مِنْهُ عِنْدَ الْكُلِّ أَوْ مَرِيضًا عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، كَمَا ثَبَتَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَازَ أَنْ يُقَامَ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ مَقَامَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعُذْرِ، وَقَدْ كَانَتْ امْرَأَةُ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ضَعِيفَةً عَنْ احْتِمَالِ مِائَةِ الضَّرْبَةِ الَّتِي حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهَا إيَّاهَا، وَكَانَتْ كَرِيمَةً عَلَى رَبِّهَا، فَخَفَّفَ عَنْهَا بِرَحْمَتِهِ الْوَاجِبَ بِالْيَمِينِ بِأَنْ أَفْتَاهُ بِجَمْعِ الضَّرَبَاتِ بِالضِّغْثِ كَمَا خَفَّفَ عَنْ الْمَرِيضِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ جَاءَتْ فِيمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ أَنَّهُ يَجْزِيهِ الثُّلُثُ، فَأَقَامَ الثُّلُثَ فِي النَّذْرِ مَقَامَ الْجَمِيعِ رَحْمَةً بِالنَّاذِرِ وَتَخْفِيفًا عَنْهُ، كَمَا أُقِيمَ مَقَامَهُ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>