للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلَى نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ أَنْ يُنْسَبَ رَبُّ الْعَالَمِينَ إلَى أَنْ يُحَرِّمَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الْعَظِيمَةِ وَيُوعِدَ عَلَيْهَا بِأَغْلَظِ الْعُقُوبَاتِ وَأَنْوَاعِ الْوَعِيدِ، ثُمَّ يُبِيحُهَا بِضَرْبٍ مِنْ الْحِيَلِ وَالْعَبَثِ وَالْخِدَاعِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ مَقْصُودَةٌ أَلْبَتَّةَ فِي نَفْسِهِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ؟ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْ الْمُرَابِينَ - لَمَّا عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ مَقْصُودَةٌ أَلْبَتَّةَ - قَدْ جَعَلَ عِنْدَهُ خَرَزَةَ ذَهَبٍ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ جِنْسًا بِجِنْسِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ ابْتَاعَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجِنْسَ بِتِلْكَ الْخَرَزَةِ، ثُمَّ ابْتَاعَ الْخَرَزَةَ بِالْجِنْسِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ، أَفَيَسْتَجِيزُ عَاقِلٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الَّذِي حَرَّمَ بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا أَحَلَّهَا بِهَذِهِ الْخَرَزَةِ؟

وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُجَّارِ قَدْ أَعَدَّ سِلْعَةً لِتَحْلِيلِ رِبَا النَّسَاءِ، فَإِذَا جَاءَهُ مَنْ يُرِيدُ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ أَدْخَلَ تِلْكَ السِّلْعَةِ مُحَلِّلًا، وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ حِيلَ الرِّبَا فِي بَابِهَا أَغْلَظَ مِنْ حِيَلِ التَّحْلِيلِ، وَلِهَذَا حَرَّمَهَا أَوْ بَعْضَهَا مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ التَّحْلِيلَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي الْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ فِي فِطَرِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَالَ فِي الرِّبَا غَالِبًا إنَّمَا يَتِمُّ بِالْمُوَاطَأَةِ اللَّفْظِيَّةِ أَوْ الْعُرْفِيَّةِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى شَهَادَةٍ، وَلَكِنْ يَتَعَاقَدَانِ ثُمَّ يَشْهَدَانِ أَنَّ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا، وَلِهَذَا إنَّمَا لَعَنَ شَاهِدَاهُ إذَا عَلِمَا بِهِ، وَالتَّحْلِيلُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ؛ لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ شَرْطًا فِيهِ، وَالشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ تُؤْثَرُ كَالْمُقَارِنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ؛ إذْ تَقْدِيمُ الشَّرْطِ وَمُقَارَنَتُهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَقْدَ تَحْلِيلٍ وَيُدْخِلُهُ فِي نِكَاحِ الرَّغْبَةِ، وَالْقُصُودُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ.

فَصْلٌ

وَجِمَاعُ الْأَمْرِ أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ رِبَوِيًّا بِثَمَنٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِثَمَنِهِ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُوَاطِئَهُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ لَفْظًا، أَوْ يَكُونَ الْعُرْفُ بَيْنَهُمَا قَدْ جَرَى بِذَلِكَ، أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقْصِدْ مِلْكَ الثَّمَنِ وَلَا قَصَدَ هَذَا تَمْلِيكَهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَمْلِيكَ الْمُثَمَّنِ بِالْمُثَمَّنِ، وَجَعَلَا تَسْمِيَةَ الثَّمَنِ تَلْبِيسًا وَخِدَاعًا وَوَسِيلَةً إلَى الرِّبَا؛ فَهُوَ فِي هَذَا الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ التَّيْسِ الْمَلْعُونِ فِي عَقْدِ التَّحْلِيلِ، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ بَيْنَهُمَا مُوَاطَأَةٌ لَكِنْ قَدْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ رِبَوِيًّا بِرِبَوِيٍّ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ، وَهُوَ يَمْنَعُ قَصْدَ الثَّمَنِ الَّذِي يَخْرُجَانِ بِهِ عَنْ قَصْدِ الرِّبَا، وَإِنْ قَصَدَ الْبَائِعُ الشِّرَاءَ مِنْهُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي؛ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هَاهُنَا لَوْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ مِنْهُ ذَهَبًا إلَّا أَنْ يَمْضِيَ وَيَبْتَاعَ بِالْوَرِقِ مِنْ غَيْرِهِ ذَهَبًا فَلَا يَسْتَقِيمُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الَّذِي ابْتَاعَ مِنْهُ الدَّنَانِيرَ فَيَشْتَرِيَ مِنْهُ ذَهَبًا، وَكَذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ تَصْرِفَ دَرَاهِمَكَ مِنْ رَجُلٍ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ تَبْتَاعَ مِنْهُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ غَيْرَ دَرَاهِمِكَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ وَصَحَّ أَمْرُهُمَا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ فَوَجْهُ مَا مَنَعَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>