للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ نَقْلَ الْحَقَائِقِ عَنْ مَوَاضِعِهَا مُمْتَنِعٌ، وَالْأَحْكَامُ قَابِلَةٌ لِلنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: " أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي " فَفَعَلَ؛ وَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ الْقَائِلِ، وَجُعِلَ الْمِلْكُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِتْقِ حُكْمًا، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ حَقِيقَةً.

وَقَوْلُكُمْ: " يَلْزَمُنَا تَجْوِيزُ تَقْدِيمِ الطَّلَاقِ عَلَى التَّطْلِيقِ " فَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ بِإِيقَاعِهِ؛ فَلَا يَسْبِقُ إيقَاعَهُ، بِخِلَافِ الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ، وَإِنَّمَا يَرْتَبِطُ بِهِ، وَالِارْتِبَاطُ أَعَمُّ مِنْ السَّابِقِ وَالْمُقَارِنِ وَالْمُتَأَخِّرِ، وَالْأَعَمُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ.

وَنُكْتَةُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِيقَاعَ مُوجِبٌ لِلْوُقُوعِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَهُ أَثَرُهُ وَمُوجِبُهُ، وَالشَّرْطُ عَلَامَةٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَوِزَانُ الشَّرْطِ وِزَانُ الدَّلِيلِ، وَوِزَانُ الْإِيقَاعِ وِزَانُ الْعِلَّةِ، فَافْتَرَقَا.

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ يَتَضَمَّنُ الْمُحَالَ إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ تَضَمَّنَ شَرْطًا وَمَشْرُوطًا، وَقَدْ تُعْقَدُ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ فِي ذَلِكَ لِلْوُقُوعِ، وَقَدْ تُعْقَدُ لِلْإِبْطَالِ؛ فَلَا يُوجَدُ فِيهَا الشَّرْطُ وَلَا الْجَزَاءُ، بَلْ تَعْلِيقٌ مُمْتَنِعٌ بِمُمْتَنِعٍ، فَتَصْدُقُ الشَّرْطِيَّةُ وَإِنْ انْتَفَى كُلٌّ مِنْ جُزْأَيْهَا، كَمَا تَقُولُ: " لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ إلَهٌ آخَرُ لَفَسَدَ الْعَالَمُ " وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: ١١٦] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ وَلَمْ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: " إنْ وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا " فَقَضِيَّةٌ عُقِدَتْ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ طَرَفَيْهَا، وَهُمَا الْمُنَجَّزُ وَالْمُعَلَّقُ.

ثُمَّ نَذْكُرُ فِي ذَلِكَ قِيَاسًا [آخَرَ] حَرَّرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَقَالَ: طَلَاقَانِ مُتَعَارِضَانِ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفِيَ السَّابِقُ مِنْهُمَا الْمُتَأَخِّرَ.

نَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَإِنْ قَدِمَ عَمْرٌو فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً، فَقَدِمَ زَيْدٌ بُكْرَةً، وَعَمْرٌو عَشِيَّةً

وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّا لَوْ أَوْقَعْنَا الطَّلَاقَ الْمُبَاشِرَ لَزِمَنَا أَنْ نُوقِعَ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، وَلَوْ أَوْقَعْنَا قَبْلَهُ ثَلَاثًا لَامْتَنَعَ وُقُوعُهُ فِي نَفْسِهِ؛ فَقَدْ أَدَّى الْحُكْمُ بِوُقُوعِهِ إلَى الْحُكْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، فَلَا يَقَعُ.

وَقَوْلُكُمْ: " إنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ تُفْضِي إلَى سَدِّ بَابِ الطَّلَاقِ، وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِشَرْعِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَلَّكَ الزَّوْجَ الطَّلَاقَ رَحْمَةً بِهِ - إلَى آخِرِهِ " جَوَابُهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ، وَإِنَّمَا هُوَ إتْيَانٌ بِالسَّبَبِ الَّذِي ضَيَّقَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ هَذِهِ الْيَمِينُ، وَهَذَا لَيْسَ تَغْيِيرًا لِلشَّرْعِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَسَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَ الطَّلَاقِ فَجَعَلَهُ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِئَلَّا يَنْدَمَ، فَإِذَا ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْقَعَهَا بِفَمٍ وَاحِدٍ حَصَرَ نَفْسَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهَا وَمَنَعَهَا مَا كَانَ حَلَالًا لَهَا، وَرُبَّمَا لَمْ يَبْقَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى عَوْدِهَا إلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ إلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>