وَنَثَرْتُمْ عَلَيْهَا مَا لَا يَصْلُحُ مِثْلُهُ لِلنِّثَارِ، وَزَيَّنْتُمُوهَا بِأَنْوَاعِ الْحُلِيِّ، وَلَكِنَّهُ حُلِيٌّ مُسْتَعَارٌ؛ فَإِذَا اسْتَرَدَّتْ الْعَارَةَ زَالَ الِالْتِبَاسُ وَالِاشْتِبَاهُ، وَهُنَاكَ تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ.
فَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّا ارْتَقَيْنَا مُرْتَقًى صَعْبًا، وَأَسَأْنَا الظَّنَّ بِمَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " فَإِنْ أَرَدْتُمْ بِإِسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِمْ تَأْثِيمًا أَوْ تَبْدِيعًا فَمَعَاذَ اللَّهِ، بَلْ أَنْتُمْ أَسَأْتُمْ بِنَا الظَّنَّ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِإِسَاءَةِ الظَّنِّ أَنَّا لَمْ نُصَوِّبُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَرَأَيْنَا الصَّوَابَ فِي خِلَافِهِمْ فِيهَا؛ فَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي كُلِّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ، بَلْ سَائِرُ الْمُتَنَازِعِينَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْأَرْبَعَةُ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَيْسَتْ كُلُّهَا صَوَابًا.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ " فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً لَهُ فَقَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ يُحْتَجُّ لَهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ نَازَعَهُ الْجُمْهُورُ فِيهَا، وَالْحُجَّةُ تَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ.
الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى مَا يَسْتَلْزِمُهَا.
وَغَايَةُ مَا ذَكَرْتُمْ نَصُّهُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " فَإِذَا مَاتَ لِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِ هَذَا التَّعْلِيقِ تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ.
وَهَذَا قَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ مَنْ يُبْطِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا هُوَ نَظِيرُهَا.
وَلَيْسَ فِيهِ سَبْقُ الطَّلَاقِ لِشَرْطِهِ، وَلَا هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْمُحَالِ؛ إذْ حَقِيقَتُهُ إذَا بَقِيَ مِنْ حَيَاتِي شَهْرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ.
وَهَذَا الْكَلَامُ مَعْقُولٌ غَيْرُ مُتَنَاقِضٍ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيمُ الطَّلَاقِ عَلَى زَمَنِ التَّطْلِيقِ وَلَا عَلَى شَرْطِ وُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا نَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا أَنْ يَقُولَ: " إذَا مِتَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " وَهَذَا الْمُحَالُ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: " إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا " أَوْ يَقُولَ: " أَنْتِ طَالِقٌ عَامَ الْأَوَّلِ " فَمَسْأَلَةُ الشَّافِعِيِّ شَيْءٌ وَمَسْأَلَةُ ابْنِ سُرَيْجٍ شَيْءٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا أَوْقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ إذَا مَاتَ لِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ مِنْ حِينِ التَّعْلِيقِ؛ فَلَوْ مَاتَ عَقِيبَ الْيَمِينِ لَمْ تَطْلُقْ، وَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي " وَبِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَكِ " فَإِنَّ كِلَا الْوَقْتَيْنِ لَيْسَ بِقَابِلٍ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا فِي أَحَدِهِمَا لَمْ تَكُنْ مَحَلًّا، وَفِي الثَّانِي لَمْ تَكُنْ فِيهِ طَالِقًا قَطْعًا، فَقَوْلُهُ: " أَنْتِ طَالِقٌ فِي وَقْتٍ قَدْ مَضَى " وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ طَالِقًا إمَّا إخْبَارٌ كَاذِبٌ أَوْ إنْشَاءٌ بَاطِلٌ، وَقَدْ قِيلَ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَيَلْغُو قَوْلُهُ: " أَمْسِ " لِأَنَّهُ أَتَى بِلَفْظِ الطَّلَاقِ ثُمَّ وَصَلَ بِهِ مَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ أَوْ يَرْفَعُهُ فَلَا يَصْلُحُ وَيَقَعُ لَغْوًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَهَا طَلْقَةً " لَيْسَ فِيهِ إيقَاعُ الطَّلْقَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْقَبْلِيَّةِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي وَلَا تَقَدُّمُهَا عَلَى الْإِيقَاعِ، وَإِنَّمَا فِيهِ إيقَاعُ طَلْقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى؛ فَمِنْ ضَرُورَةِ قَوْلِهِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute