فَيَبِيعُونَهُ بِالْبَرَاءَةِ وَلَمْ تَطُلْ إقَامَةُ الرَّقِيقِ عِنْدَهُمْ: هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ يَذْهَبُوا بِأَمْوَالِ النَّاسِ بَاطِلًا، لَا تَنْفَعُهُمْ الْبَرَاءَةُ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَغَيْرُهُ: لَا يُشْتَرَطُ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَا طُولُ مُقَامِهِ عِنْدَهُ، بَلْ تَنْفَعُهُ الْبَرَاءَةُ كَمَا تَنْفَعُهُ مَعَ الطُّولِ وَالِاسْتِعْمَالِ.
قَالُوا: وَإِذَا كَانَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ يَعْلَمُهُ الْبَائِعُ بِعَيْنِهِ فَأَدْخَلَهُ فِي جُمْلَةِ عُيُوبٍ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً، وَتَبَرَّأَ مِنْهَا كُلِّهَا، لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ حَتَّى يُفْرِدَهُ بِالْبَرَاءَةِ وَيُعَيِّنَ مَوْضِعَهُ وَجِنْسَهُ وَمِقْدَارَهُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْمُبْتَاعِ فِيهِ قَوْلٌ.
قَالُوا: وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَاهُ الْعَيْبَ وَشَاهَدَهُ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ إذَا كَانَ ظَاهِرُهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِحَاطَةَ بِبَاطِنِهِ وَبَاطِنُهُ فِيهِ فَسَادٌ آخَرُ كَمَا إذَا أَرَاهُ دَبَرَةَ الْبَعِيرِ وَشَاهَدَهَا وَهِيَ مُنْغِلَةٌ مُفْسِدَةٌ فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ مَا فِيهَا مِنْ نَغَلٍ وَغَيْرِهِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ.
قَالُوا: وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَهُ أَنَّ بِهِ إبَاقًا أَوْ سَرِقَةً وَهُوَ إبَاقٌ بِعَبْدٍ أَوْ سَرِقَةٌ عَظِيمَةٌ وَالْمُشْتَرِي يَظُنُّهُ يَسِيرًا لَمْ يَبْرَأْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْكَاتِبِ: لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي أَنَّ بَيْعَ السُّلْطَانِ بَيْعُ بَرَاءَةٍ عَلَى الْمُفْلِسِ أَوْ لِقَضَاءِ دُيُونٍ مِنْ تَرِكَةِ مَيِّتٍ بَيْعُ بَرَاءَةٍ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنْهُ بِالْمَبِيعِ وَبَيْعُ الْبَرَاءَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَإِذَا حَكَمَ السُّلْطَانُ بِأَحَدِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ لَمْ تُرَدَّ قَضِيَّتُهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى خِلَافَ رَأْيِهِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: السُّلْطَانُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْبَيْعِ إلَى خِلَافٍ وَلَا وِفَاقٍ، وَلَا قَصَدَ إلَى حُكْمٍ بِهِ يَرْفَعُ النِّزَاعَ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الشُّيُوخِ الْخِلَافَ فِي بَيْعِ الْبَرَاءَةِ وَلَوْ تَوَلَّاهُ السُّلْطَانُ بِنَفْسِهِ، قَالَ: وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَحْنُونًا قَالَ: وَكَانَ قَوْلُ مَالِكٍ الْقَدِيمُ أَنَّ بَيْعَ السُّلْطَانِ وَبَيْعَ الْوَارِثِ لَا قِيَامَ فِيهِ بِعَيْبٍ وَلَا بِعُهْدَةٍ، قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ قَوْلًا آخَرَ خِلَافَ هَذَا، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ قَالَ: إذَا بِيعَ عَبْدٌ عَلَى مُفْلِسٍ فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ، قَالَ: فَالصَّوَابُ أَنَّ بَيْعَ السُّلْطَانِ وَبَيْعَ الْوَرَثَةِ كَغَيْرِهِمَا.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَمَّا بَيْعُ الْوَرَثَةِ لِقَضَاءِ دُيُونِهِ وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ فَإِنَّ فِيهِ الْخِلَافَ الْمَشْهُورَ، قَالَ: وَأَمَّا مَا بَاعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ لِلِانْفِصَالِ مِنْ شَرِكَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَمُلْتَحَقٌ بِبَيْعِ الرَّجُلِ مَالَ نَفْسِهِ بِالْبَرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَاعَ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ فِي وَلَايَتِهِ.
قُلْت: وَقَوْلُ الْمَازِرِيِّ: " إنَّ بَيْعَ السُّلْطَانِ لَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِحُكْمٍ " مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا عَقَدَ بِنَفْسِهِ عَقْدًا مُخْتَلَفًا فِيهِ هَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِهِ بِهِ [فَيَسُوغُ تَنْفِيذُهُ، وَلَا يَسُوغُ رَدُّهُ أَوْ لَا يَكُونُ حُكْمًا مِنْهُ بِهِ] فَيَسُوغُ لِحَاكِمٍ آخَرَ خِلَافُهُ؟ وَفِي هَذَا الْأَصْلِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ، وَهُمَا فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَإِنَّهُ يُصَحِّحُ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ، وَلَا يُمَكِّنُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الرَّدِّ بَعْدَ اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ الْعَامَّةِ، سَوَاءٌ عَلِمَ الْبَائِعُ الْعَيْبَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ، حَيَوَانًا كَانَ الْمَبِيعُ أَوْ غَيْرَهُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute