وَتَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَبْرَأُ إلَّا مِنْ عَيْبٍ أَشَارَ إلَيْهِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ بَاعَتْ عَبْدًا زِنْجِيًّا عَلَى ذَكَرِهِ عَيْبٌ أَفَتَضَعُ أُصْبُعَهَا عَلَى ذَكَرِهِ؟ فَسَكَتَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى.
وَأَمَّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَعَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ: أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِذَلِكَ وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمُشْتَرِي مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إلَّا مِنْ عَيْبٍ عَيَّنَهُ وَعَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَبْرَأُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، وَلَا يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ عَلِمَهُ حَتَّى يَعْلَمَ بِهِ الْمُشْتَرِي.
فَإِنْ صَحَّحْنَا الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ أَبْطَلْنَا الشَّرْطَ فَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ أَوْ يَصِحُّ، وَيَثْبُتُ الرَّدُّ فِيهِ؟ وَجْهَانِ، فَإِذَا أَثْبَتْنَا الرَّدَّ وَأَبْطَلْنَا الشَّرْطَ فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ بِالتَّفَاوُتِ الَّذِي نَقَصَ مِنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ بِالشَّرْطِ الَّذِي لَمْ يَسْلَمْ لَهُ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا بَاعَهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَرُدُّهَا عَلَيْهِ بِعَيْبٍ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهَا لَمْ يَبِعْهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ؛ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالتَّفَاوُتِ، وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَقِيَاسُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ كَمَا يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ عِنْدَ فَوَاتِ غَرَضِهِ مِنْ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ فَهَكَذَا الْبَائِعُ يَرْجِعُ بِالتَّفَاوُتِ عِنْدَ فَوَاتِ غَرَضِهِ مِنْ الشَّرْطِ الَّذِي أَبْطَلْنَاهُ عَلَيْهِ.
[بَحْثٌ فِي النُّكُولِ وَرَدِّ الْيَمِينِ]
وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ بَاعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَبْدًا بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَصَابَ بِهِ زَيْدٌ عَيْبًا، فَأَرَادَ رَدَّهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ، فَتَرَافَعَا إلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِابْنِ عُمَرَ: تَحْلِفُ أَنَّك لَمْ تَعْلَمْ بِهَذَا الْعَيْبِ، فَقَالَ: لَا، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَبَاعَهُ ابْنُ عُمَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجَوَازِ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ، وَاتِّفَاقٌ مِنْ عُثْمَانَ وَزَيْدٍ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إذَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ لَمْ يَنْفَعْهُ شَرْطُ الْبَرَاءَةِ، وَعَلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَتَى نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، لَكِنَّ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْفَرِدًا بِمَعْرِفَةِ الْحَالِ، فَإِذَا لَمْ يَحْلِفْ مَعَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِصُورَةِ الْحَالِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْعِلْمِ بِالْحَالِ أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عِلْمُهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ فَمِثَالُ الْأَوَّلِ قَضِيَّةُ ابْنِ عُمَرَ هَذِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِأَنَّهُ هَلْ كَانَ يَعْلَمُ الْعَيْبَ أَوْ لَا يَعْلَمُهُ، بِخِلَافِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ عِلْمَ ابْنِ عُمَرَ بِذَلِكَ، وَلَا عَدَمَ عِلْمِهِ، فَلَا يُشْرَعُ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَيْهِ.
وَمِثَالُ الثَّانِي: إذَا ادَّعَى عَلَى وَارِثِ مَيِّتٍ أَنَّهُ أَقْرَضَ مُورِثَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً وَلَمْ يُقْبِضْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute