للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تُكَلِّمْهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ قِيلَ لَهُ: إنَّ امْرَأَتَك قَدْ مُسِكَتْ تَشْرَبُ الْخَمْرَ مَعَ فُلَانٍ، فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ ظَهَرَ كَذِبُ الْمُخْبِرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا لَا يَنْضَبِطُ.

فَنَذْكُرُ أَقْوَالَ مَنْ أَفْتَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ فِي ذَلِكَ؛ إذْ هُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ؛ أَلْفَاظُهَا وَأَقْيِسَتُهَا وَاعْتِبَارُهَا، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ نَظِيرُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ فَعَلَ الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا، فَأَوْلَى فِي بَابِ الْيَمِينِ أَنْ لَا يَكُونَ حَانِثًا.

وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إنَّمَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ مَا يَمْلِكُهُ، وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ وَالْخَطَأُ وَالْإِكْرَاهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، فَمَا فَعَلَهُ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ يَمِينُهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْهُ.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي وَالْمُكْرَهِ، فَإِلْزَامُهُ بِالْحِنْثِ أَعْظَمُ مُؤَاخَذَةً لَمَّا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَجَاوَزَ لِلْأُمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْأَحْكَامِ.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِعْلَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ النَّائِمِ فِي عَدَمِ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَلِهَذَا هُوَ عَفْوٌ لَا يَكُونُ بِهِ مُطِيعًا وَلَا عَاصِيًا.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا رَتَّبَ الْأَحْكَامَ عَلَى الْأَلْفَاظِ؛ لِدَلَاتِهَا عَلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا، وَإِرَادَتِهِ، فَإِذَا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ قَصَدَ كَلَامَهَا، وَلَمْ يَقْصِدْ مَعَانِيَهَا، وَلَمْ يَقْصِدْ مُخَالَفَةَ مَا الْتَزَمَهُ وَلَا الْحِنْثَ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَا يُلْزِمُهُ بِمَا لَمْ يَقْصِدْهُ، بَلْ قَدْ رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْهُ بِمَا لَمْ يَقْصِدْهُ مِنْ ذَلِكَ.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ عَلَى الْقَصْدِ، فَاعْتُبِرَ؛ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَلِمْنَا يَقِينًا خِلَافَ الْمَدْلُولِ لَمْ يَجُزْ أَنْ نَجْعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا تَيَقَّنَّا خِلَافَهُ.

وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْمَعْصُومِ بِيَدِهِ مُبَاشَرَةً إذَا لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَهُ بَلْ قَتَلَهُ خَطَأً، وَلَمْ يُلْزِمْهُ شَيْئًا مِنْ دِيَتِهِ، بَلْ حَمَلَهَا غَيْرُهُ، فَكَيْفَ يُؤَاخِذُهُ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ؟ هَذَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ عَلَى الشَّارِعِ.

وَقَدْ رَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤَاخَذَةَ عَمَّنْ أَكَلَ وَشَرِبَ فِي نَهَارِ رَمَضَانِ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ، مَعَ أَنَّ أَكْلَهُ وَشُرْبَهُ فِعْلٌ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، فَكَيْفَ يُؤَاخِذُهُ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا وَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَيُخَرِّبُ بَيْتَهُ وَيُشَتِّتُ شَمْلَهُ وَشَمْلَ أَوْلَادِهِ، وَأَهْلِهِ وَقَدْ عَفَا لَهُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي نَهَارِ الصَّوْمِ نَاسِيًا؟

<<  <  ج: ص:  >  >>