وَقَدْ عَفَا عَمَّنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي نَهَارِ الصَّوْمِ عَمْدًا غَيْرَ نَاسٍ لَمَّا تَأَوَّلَ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ بِالْحَبْلَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ حَتَّى تَبَيَّنَا لَهُ وَقَدْ طَلَعَ النَّهَارُ، وَعَفَا لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ، لِتَأْوِيلِهِ، فَمَا بَالُ الْحَالِفِ الْمُتَأَوِّلِ لَا يُعْفَى لَهُ عَنْ الْحِنْثِ بَلْ يُخَرِّبُ بَيْتَهُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَبِيبَتِهِ وَيُشَتِّتُ شَمْلَهُ كُلَّ مُشَتَّتٍ؟ وَقَدْ عَفَا عَنْ الْمُتَكَلِّمِ فِي صَلَاتِهِ عَمْدًا، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ لَمَّا كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ لَمْ يَتَعَمَّدْ مُخَالَفَةَ حُكْمِهِ، فَأَلْغَى كَلَامَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُبْطِلًا لِلصَّلَاةِ، فَكَيْفَ لَا يُقْتَدَى بِهِ وَيُلْغَى قَوْلُ الْجَاهِلِ وَفِعْلُهُ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ وَلَا يُحَنِّثُهُ كَمَا لَمْ يُؤَثِّمْهُ الشَّارِعُ؟ وَإِذَا كَانَ قَدْ عَفَا عَمَّنْ قَدَّمَ شَيْئًا أَوْ أَخَّرَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ مِنْ الْحَلْقِ وَالرَّمْيِ وَالنَّحْرِ نِسْيَانًا أَوْ جَهْلًا فَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِتَرْكِ تَرْتِيبِهَا نِسْيَانًا، فَكَيْفَ يَحْنَثُ أَنْ قَدَّمَ مَا حَلَفَ عَلَى تَأْخِيرِهِ أَوْ أَخَّرَ مَا حَلَفَ عَلَى تَقْدِيمِهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا؟ ، وَإِذَا كَانَ قَدْ عَفَا عَمَّنْ حَمَلَ الْقَذَرِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِهِ، فَكَيْفَ يُؤَاخِذُ الْحَالِفَ وَيَحْنَثُ بِهِ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ أَوَامِرُ الرَّبِّ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ دُونَ مَا الْتَزَمَهُ الْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؟ وَكَيْفَ يَحْنَثُ مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْحِنْثَ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا بِمَنْزِلَةِ تَأْثِيمِهِ مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْإِثْمَ وَتَكْفِيرِهِ مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكُفْرَ؟ وَكَيْفَ يُطَلِّقُ أَوْ يُعْتِقُ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ، وَلَمْ يُطَلِّقْ عَلَى الْهَازِلِ إلَّا لِتَعَمُّدِهِ فَإِنَّهُ تَعَمَّدَ الْهَزْلَ، وَلَمْ يُرِدْ حُكْمَهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِ بَلْ إلَى الشَّارِعِ، فَلَيْسَ الْهَازِلُ مَعْذُورًا، بِخِلَافِ الْجَاهِلِ وَالْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي.
وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا تَقْتَضِي أَلَّا يَحْنَثَ الْحَالِفُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَلَا يَطَّرِدُ عَلَى الْقِيَاسِ وَيَسْلَمُ مِنْ التَّنَاقُضِ إلَّا هَذَا الْقَوْلُ.
وَأَمَّا تَحْنِيثُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَإِنَّ صَاحِبَهُ وَإِنْ سَلِمَ مِنْ التَّنَاقُضِ لَكِنَّ قَوْلَهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا، وَأَدِلَّتِهَا.
وَمَنْ حَنِثَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ تَنَاقَضَ، وَلَمْ يَطَّرِدْ لَهُ قَوْلٌ، وَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ دَلِيلٌ عَنْ الْمُعَارَضَةِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ؛ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، إحْدَاهَا: أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَيْمَانِ بِالنِّسْيَانِ وَلَا الْجَهْلِ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مَعَ النِّسْيَانِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْأَيْمَانِ الْمُكَفَّرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَيَمِينُهُ بَاقِيَةٌ لَمْ تَنْحَلَّ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute