للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَعَ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ كَمَا لَمْ يَتَنَاوَلْ حَالَةَ الْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحِنْثِ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبِرِّ؛ إذْ لَوْ كَانَ فَاعِلًا لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبِرِّ لَكَانَ فَاعِلًا لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحِنْثِ.

وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَالثَّانِيَةُ: يَحْنَثُ فِي الْجَمِيعِ، وَهِيَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّالِثَةُ: يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الَّتِي لَا تُكَفَّرُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَلَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ، وَهِيَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَأَصْحَابِهِ. وَاَلَّذِينَ حَنَّثُوهُ مُطْلَقًا نَظَرُوا إلَى صُورَةِ الْفِعْلِ، وَقَالُوا: قَدْ وُجِدَتْ الْمُخَالَفَةُ. وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا قَالُوا: الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْمَشْرُوطُ، سَوَاءٌ كَانَ مُخْتَارًا لِوُجُودِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ.

كَمَا لَوْ قَالَ: " إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ " فَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي حَالِ جُنُونِهِ، فَهَلْ هُوَ كَالنَّائِمِ فَلَا يَحْنَثُ أَوْ كَالنَّاسِي فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ،، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ كَالنَّائِمِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ.

وَلَوْ حَلَفَ عَلَى مَنْ يَقْصِدُ مَنْعَهُ كَعَبْدِهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ، وَأَجِيرِهِ فَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، هُوَ عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ، وَكَذَلِكَ هُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ مَنْعَهُ لِمَنْ يَمْتَنِعُ بِيَمِينِهِ كَمَنْعِهِ لِنَفْسِهِ؛ فَلَوْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ عَلَى زَيْدٍ فَسَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ هُوَ فِيهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمْ فَإِنْ لَمْ نُحَنِّثْ النَّاسِيَ فَهَذَا أَوْلَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَالنَّاسِي قَدْ قَصَدَ التَّسْلِيمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَنَّثْنَا النَّاسِيَ هَلْ يَحْنَثُ هَذَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا: يَحْنَثُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّاسِي؛ إذْ هُوَ جَاهِلٌ بِكَوْنِهِ مَعَهُمْ.

وَالثَّانِيَةُ: - وَهِيَ أَصَحُّ - أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، قَالَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَاهِلَ أَعْذَرُ مِنْ النَّاسِي، وَأَوْلَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ.

وَصَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَيْمَانِ، وَلَكِنْ تَنَاقَضُوا كُلُّهُمْ فِي جَعْلِ النَّاسِي فِي الصَّوْمِ أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ الْجَاهِلِ، فَفَطَّرُوا الْجَاهِلَ دُونَ النَّاسِي، وَسَوَّى شَيْخُنَا بَيْنَهُمَا، وَقَالَ: الْجَاهِلُ أَوْلَى بِعَدَمِ الْفِطْرِ مِنْ النَّاسِي، فَسَلِمَ مِنْ التَّنَاقُضِ.

وَقَدْ سَوَّوْا بَيْنَ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي فِيمَنْ حَمَلَ النَّجَاسَةَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، وَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَجَعَلُوا الرِّوَايَتَيْنِ وَالْقَوْلَيْنِ فِي الصُّورَتَيْنِ سَوَاءً، وَقَدْ سَوَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ» فَالصَّوَابُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا.

فَصْلٌ:

[فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مُكْرَهًا]

وَأَمَّا إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُكْرَهًا فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ، إحْدَاهُمَا: يَحْنَثُ

<<  <  ج: ص:  >  >>