كِذْبَةٌ لَيْسَ عَلَيْهِ يَمِينٌ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ، إحْدَاهَا: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ -: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي بَكْرٍ - قَالَ عَقِيبَ حِكَايَةِ الرِّوَايَتَيْنِ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي الطَّلَاقِ: يَلْزَمُهُ وَفِيمَا لَا يَكُونُ مِنْ الْأَيْمَانِ: لَا يَلْزَمُهُ، وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ حَيْثُ أَلْزَمَهُ أَرَادَ بِهِ فِي الْحُكْمِ، وَحَيْثُ لَمْ يَلْزَمْهُ بَقِيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَفْقَهُ، وَأَطْرُدُ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ:
وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَالْمَشْهُورُ فِيهِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ وَالْخَطَإِ وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْعَجْزِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ كَلَامَ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ.
قَالُوا: مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْعَلَ حَنِثَ بِحُصُولِ الْفِعْلِ، عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ خَطَأً، وَاخْتَارَ أَبُو الْقَاسِمِ السُّيُورِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ مُحَقِّقِي الْأَشْيَاخِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا نَسِيَ الْيَمِينَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، قَالُوا: وَلَوْ أُكْرِهَ لَمْ يَحْنَثْ.
فِي تَعَذُّرِ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَعَجْزِ الْحَالِفِ عَنْهُ.
قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ لَيَفْعَلَنَّهُ فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلِهِ، فَإِنْ أَجَّلَ أَجَلًا فَامْتَنَعَ الْفِعْلُ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ وَذَهَابِهِ كَمَوْتِ الْعَبْدِ الْمَحْلُوفِ عَلَى ضَرْبِهِ أَوْ الْحَمَامَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَى ذَبْحِهَا فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ مَنْصُوصٍ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْفِعْلُ لِسَبَبِ مَنْعِ الشَّرْعِ كَمَنْ حَلَفَ لَيَطَأَنَّ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فَوَجَدَهَا حَائِضًا فَقِيلَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
قُلْت: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى وَطْءٍ يَمْلِكُهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ الْوَطْءُ الَّذِي لَمْ يُمَلِّكْهُ الشَّارِعُ إيَّاهُ، فَإِنْ قَصَدَهُ حَنِثَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ: لِأَنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى وَطْءٍ يَمْلِكُهُ، وَهَكَذَا فِي صُورَةِ الْعَجْزِ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ فِعْلَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَا تَدْخُلُ حَالَةَ الْعَجْزِ تَحْتَ يَمِينِهِ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ قَدْ قَالُوهُ فِي الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ، وَالتَّفْرِيقُ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ؛ فَاَلَّذِي يَلِيقُ بِقَوَاعِدِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي صُورَةِ الْعَجْزِ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَجْزُ لِمَنْعٍ شَرْعِيٍّ أَوْ مَنْعٍ كَوْنِيٍّ قَدَرِيٍّ، كَمَا هُوَ قَوْلُهُ فِيمَا لَوْ كَانَ الْعَجْزُ لِإِكْرَاهِ مُكْرَهٍ، وَنَصُّهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ رِوَايَةٌ مُخَرَّجَةٌ مِنْ أُصُولِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ التَّخْرِيجِ، فَلَوْ وَطِئَ مَعَ الْحَيْضِ وَعَصَى فَهَلْ يَتَخَلَّصُ مِنْ الْحِنْثِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، أَحَدُهُمَا: يَتَخَلَّصُ، وَإِنْ أَثِمَ بِالْوَطْءِ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَيَشْرَبَنَّ هَذِهِ الْخَمْرَ فَشَرِبَهَا فَإِنَّهُ لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ، وَالثَّانِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute