للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَا يُحْفَظُ لِلصِّدِّيقِ خِلَافُ نَصٍّ وَاحِدٍ أَبَدًا، وَلَا يُحْفَظُ لَهُ فَتْوَى وَلَا حُكْمٌ مَأْخَذُهَا ضَعِيفٌ أَبَدًا، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ خِلَافَتِهِ خِلَافَةَ نُبُوَّةٍ.

فَصْلٌ:

[رَأْيُ الشَّافِعِيِّ فِي أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ]

وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ الصَّحَابِيُّ صَحَابِيًّا آخَرَ فَإِمَّا أَنْ يَشْتَهِرَ قَوْلُهُ فِي الصَّحَابَةِ أَوْ لَا يَشْتَهِرُ، فَإِنْ اشْتَهَرَ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الطَّوَائِفِ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: هُوَ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَقَالَتْ شِرْذِمَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَكُونُ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ قَوْلُهُ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ هَلْ اُشْتُهِرَ أَمْ لَا فَاخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ يَكُونُ حُجَّةً أَمْ لَا؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ أَنَّهُ حُجَّةٌ هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، صَرَّحَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَذَكَرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ، وَتَصَرُّفُهُ فِي مُوَطَّئِهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَنْهُ وَاخْتِيَارُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، أَمَّا الْقَدِيمُ فَأَصْحَابُهُ مُقِرُّونَ بِهِ، وَأَمَّا الْجَدِيدُ فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُحْكَى عَنْهُ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ عَنْهُ نَظَرٌ ظَاهِرٌ جِدًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يُحْفَظُ لَهُ فِي الْجَدِيدِ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَغَايَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ نَقْلِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْكِي أَقْوَالًا لِلصَّحَابَةِ فِي الْجَدِيدِ ثُمَّ يُخَالِفُهَا، وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ حُجَّةٌ لَمْ يُخَالِفْهَا، وَهَذَا تَعَلُّقٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الْمُجْتَهِدِ الدَّلِيلَ الْمُعَيَّنَ لِمَا هُوَ أَقْوَى فِي نَظَرِهِ مِنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَاهُ دَلِيلًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، بَلْ خَالَفَ دَلِيلًا لِدَلِيلٍ أَرْجَحَ عِنْدَهُ مِنْهُ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَرَاهُ فِي الْجَدِيدِ إذَا ذَكَرَ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ مُوَافِقًا لَهَا لَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا كَمَا يَفْعَلُ بِالنُّصُوصِ، بَلْ يُعَضِّدُهَا بِضُرُوبٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ؛ فَهُوَ تَارَةً يَذْكُرُهَا وَيُصَرِّحُ بِخِلَافِهَا، وَتَارَةً يُوَافِقُهَا وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا بَلْ يُعَضِّدُهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهَذَا أَيْضًا تَعَلُّقٌ أَضْعَفُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ تَظَافُرَ الْأَدِلَّةِ وَتَعَاضُدِهَا وَتَنَاصُرِهَا مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَلَا يَدُلُّ ذِكْرُهُمْ دَلِيلًا ثَانِيًا وَثَالِثًا عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ قَبْلَهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ.

وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، فَقَالَ: الْمُحْدَثَاتُ مِنْ الْأُمُورِ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا أُحْدِثَ يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا أَوْ أَثَرًا فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلَالَةُ، وَالرَّبِيعُ إنَّمَا أَخَذَ عَنْهُ بِمِصْرَ، وَقَدْ جَعَلَ مُخَالَفَةَ الْأَثَرِ الَّذِي لَيْسَ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ ضَلَالَةً، وَهَذَا فَوْقَ كَوْنِهِ حُجَّةً، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ مَدْخَلِ السُّنَنِ لَهُ: بَابُ ذِكْرِ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ إذَا تَفَرَّقُوا.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَاوِيلُ الصَّحَابَةِ إذَا تَفَرَّقُوا فِيهَا تَصِيرُ إلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ، وَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ

<<  <  ج: ص:  >  >>