ــ
وأقول: لعل هذا الوجه أرجح؛ لأن الأصل في إسناد الركبة إلى الركبة أن يكون الاعتماد
والاتكاء عليه، فإذا لا يبعد وضع جبريل عليه السلام يديه على فخذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تلك
الحالة، فأشعرت تلك الهيئة بأنها ليست كهيئة التلميذ، وكذا نداؤه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - باسمه، بل
هما من هيئة الشيخ إذا اهتم بشأن التعليم، واراد مزيد إصغاء المتعلم وإفهامه، فكيف لا؟ وقد
شهد الله تعالى به في قوله: (علمه شديد القوى) وكفى به شاهداً. وينصره أيضا أمران:
أحدهما قوله: (جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -)، فلو كان جلوسه جلوس المتعلم لقيل: بين يديه، فضلا
أن يقال: عنده، فكيف بقوله: (جلس إليه)؟ لأنه متضمن معنى الميل والإسناد، كأنه قيل:
مال إليه حالة جلوسه وأسند إليه، فيكون عطف قوله: (وأسند ركبتيه) على قوله: (جلس إاليه)
للبيان والتفسير، كعطف قوله تعالى: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار_ إلى قوله_ من
خشية الله) على قوله: (فهى كالحجارة أو أشد قسوة) لما يعلم من المعطوف كون قلوبهم
أقسى من الحجارة، وثانيهما قوله: (صدقت) وإنما يقال هذا إذا طابق قول المسئول عنه قول
السائل؛ لأنه إذا عرف أن المسئول عنه أصاب المخبر وطبق المفضل صوبه، ولهذا السر
قالوا: (تعجبنا من قوله: (صدقت) وأيضاً في إيثار (إذ طلع علينا) على (إذ دخل) إشارة ألى
عظمته وعلوه. (غيب): طلع علينا فلان، مستعار من: طلعت الشمس. (الكشاف): في
قوله: (أطَّلع الغيب): ولا ختيار هذه الكلمة شأن، يقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى
إلى علم الغيب، فحينئذ يتعلق (حتى) بمحذوف يدل عليه (طلع) أى دنا منه حتى جلس إليه.
وإذا تقرر هذا فصورة هذه الحالة كصورة المعيد إذا امتحه عند حضور الطلبة
والمستفيدين منه، ليزيدوا طمأنينة وثقة في أنه يعيد الدرس ويلقى إليهم المسألة كما سمعه من
الشيخ بلا زيادة ولا نقصان، وفيه مسحة من قوله: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى
علمه شديد القوى) وهذا معنى قوله (عليه السلام) في آخر الحديث: (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم
دينكم).
وأما سر إسناد ركبتيه إلى ركبتيه ففيه إشارة إلى سابقة بينهما، وشدة إخلاص واتحاد، كما
بين المتحابين، ولله در القاتل:
أخ طاهر (الأخلاق) حلو كأنه ... جنا النحل ممزوج بماء غمام
يزيد على الأيام صفو مودة ... وشدة إخلاص ورعى ذمام
ــ