قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر علي أنفه فقال به هكذا- أي بيده- فذبه عنه، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لله أفرح بتوبة عبد مؤمن من رجل، نزل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستقيظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله. قال: أرجع إلي مكإني الذي كنت فيه. فأنام حتى أموت، فوضع رأسه علي ساعده ليموت، فاستيقظ؛ فإذا راحلته عنده، عليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)) روى مسلم المرفوع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فحسب، وروى البخاري الموقوف علي ابن مسعود أيضا.
ــ
الحديث الخامس عن الحارث: قوله: ((يرى ذنوبه)) المفعول الثاني محذوف، أي كالجبال، بدليل قوله:((كذباب)).ويجوز أن يكون ((كأنه)) مفعولا ثإنيا، والتشبية تمثيل، شبه حالة ذنوبه وأنها مهلكة له بحالته إذا كان تحت جبل، علي منوال قوله:
وما الناس إلا كالديار وأهلها بها يوم حلوها، وغدوا بلاقع
لم يشبه الناس بالديار، بل شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم، بحلول أهل الديار ووشك نهوضهم عنها، وتركها خلاء خاوية. دل التمثيل الأول علي غاية الخوف، والاحتراز من الذنوب، والثاني علي نهاية قلة المبالاة، والاحتفال بها.
فإن قلت: ما التوفيق بين هذا القول، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لله أفرح))؟ قلت: لما بالغ في احتراز المؤمن، وخوفه من الذنوب، وصوره بتلك الصورة الفظيعة الهائلة، تصور أنه طلب ملجأ وكهفا يلوذ إليه من ذلك الهول، فقيل له: ليس ذلك الملجأ والمفزع إلا إلي الله؛ لأنه أفرح إلي آخره، وذكر الفاجر وارد علي سبيل الاستطراد، كما في قوله تعالي:} ومن كل تأكلون لحما طريا {بعد قوله:} وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه {؛لأن البحرين تمثيل للمؤمن والكافر. قوله:((لله أفرح)) الحديث قد مر شرحه في الفصل الأول، ويذكر بعض ما يختص به هاهنا.
قوله:((دوية)) ((مح)):هي بتشديد الواو والياء جميعا، وذكر مسلم في رواية أخرى ((داوية)) بزيادة ألف، وهي بتشديد الياء أيضا، وهي الأرض القفر والمفازة الخالية، فالدوية منسوبة إلي الدو، وأما الداوية فإبدال إحدى الواوين ألفا، كالطائي منسوبا إلي الطيء. و ((المهلكة)) –بفتح