للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

ثلاثاً. فقال: ((لو قلتُ: نعم لوجبت ولما استطعتم)) ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما

ــ

الشرائع، وتبليغ الأحكام، فلو وجب الحج كل سنة لبينه الرسول صلوات الله عليه لا محالة، ولا يقتصر علي الأمر به مطلقاً، سواء سئل عنه أو لم يسأل، فيكون السؤال استعجالاً ضائعاً. ثم لما رأي أنه لا ينزجر به ولا يقنع إلا بالجواب الصريح، أجاب عنه بقوله: ((ولو قلت نعم لوجبت كل عام حجة)) فأفاد به أنه لا يجب كل عام، لما في ((لو)) من الدلالة علي نتفاء الشيء لانتفاء غيره، وأنه إنما لم يتكرر؛ لما فيه من الحرج، والكلفة الشاقة. ونبه علي أن العاقل ينبغي له أن لا يستقبل الكلف الخارجة عن سمعه، وأن لا يسأل عن شيء إن يبد له أساءه.

واحتج بهذا الحديث من جوز تفويض الحكم إلي رأي النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الله له: احكم بما شئت، فإنك لا تحكم إلا بالصواب، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت نعم لوجبت)) يدل علي أنه كان إليه إيجاب ما شاء. وهو ضعيف؛ لأن قوله: ((لو قلت)) أعم من أن يكون قولاً من تلقاء نفسه أو من وحي نازل، أو رأي يراه إن جوزنا له الاجتهاد، والدال علي الأعم لا يدل علي الأخص، لكنه يدل علي أن الأمر للوجوب؛ لأن قوله: ((لو قلت نعم لوجبت)) تقديره: لو قلت: نعم حجوا كل سنة، لوجبت كل عام حجة. وذلك إنما يصح إذا كان الأمر مقتضياً للوجوب.

أقول: والاستدلال بسؤال الرجل علي أن الأمر لا يفيد التكرار ولا المرة ضعيف؛ لأن الإنكار وارد علي السؤال الذي لم يقع موقعه، ولهذا زجره، وقال: ((ذروني ما تركتكم)) فعم الخطاب يعني اقتصروا علي ما أمرتكم، فأتوا به علي قدر استطاعتكم. وكذا قوله تعالي: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} نازل في هذا الشأن، فقد علم أن الرجل لو لم يسأل لم يفد الأمر غير المرة، وأن التكرار مفتقر إلي دليل خارجي. وفي قوله ((لو قلت نعم))، أيضاً بحث؛ لأن القول إذا صرح به يجب أن يجري علي حقيقته إلا إذا منع مانع، فيجري علي المجاز. لنا قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيحسب أحدكم أن يكون متكئاً علي أريكته، يظن أن الله تعالي لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن، ألا إني والله قد أمرت، ووعظت، ونهيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن أو أكثر)) رواه عرباض. وفي حديث مقدام ((إنما حرم رسول الله كما حرم الله)) وفي تسميته صلى الله عليه وسلم نفسه رسول الله إشعار باستقلاله في الأمر والنهي، وكذلك القسم في الحديث الأول مؤذن بالغضب الشديد علي المنكر ووصفه بالاتكاء علي الأريكة شبعان من هذا القبيل. وفي قوله: ((لما استطعتم)) إشارة إلي أن بناء الأمر علي اليسر والسهولة، لا العسر والصعوبة، كما ظن السائل.

قوله ((ذروني ما تركتكم)) ((مح)): فيه دليل علي أن الأصل عدم الوجوب، وأنه لا تكليف قبل ورود الشرع؛ لقوله تعالي: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}.

<<  <  ج: ص:  >  >>