فإن قيل: قد بعض رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الخزرجي في نفر إلي كعب بن الأشرف فقتلوه، وبعث عبد الله بن عتيك الأوسي في نفر إلي رافع، وعبد الله بن إنيس الجهني إلي سفيان بن خالد، فكيف التوفيق بين هذا الحديث، وبين تلك القضايا التي أمر بها؟ قلت: يحتمل أن النهي عن الفتك كان بعدها وهو الأظهر، لأن أولاها كانت في السنة الثالثة، والثانية في الرابعة، والثالثة بعد الخندق في الخامسة، وإسلام أبي هريرة كان عام خيبر في السابعة. ويحتمل أن يكون ذلك خصيصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أيده من العصمة ويحتمل أن تكون تلك القضايا بأمر سماوي؛ لما ظهر من المقتولين من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم والتعرض له بما لا يجوز ذكره من القول والمبالغة في الأذية والتحريض عليه.
واختار القاضي هذا الوجه ولخصه، وقال: المعنى أن الإيمان منع ذلك وحرمه فلا ينبغي للمؤمن أن يفعله، لأن المقصود به إن كان مسلماً فظاهر، وإن كان كافراً فلابد من تقديم تدبير واستتابة، إذ ليس المقصود بالذات قتله، بل الاستكمال والحمل علي الإسلام علي ما يمكن، هذا إذا لم يدع إليه داع، فإن كان كما إذا علم أنه مصر علي كفره حريص علي قتل المسلمين منتهز للفرص منهم، وأن دفعه لا يتيسر إلا بهذا فلا حرج فيه.
أقول: هذا هو الوجه، والذهاب إلي النسخ والتخصيص بعيد، لأن الظاهر يقتضي أن تذكر الجملة الأولي بعد الأخرى، فإن التعليل مؤخر عن المعلل، لكن قدمت اعتباراً للرتبة وبياناً لشرف الإيمان، وأن من خصائصه وخصائل أهله النصيحة لكل أحد حتى الكفار، كما ورد ((الدين النصيحة)) فعلي من اتصف بصفة الإيمان أن يتحلي بها ويجتنب عن صفة العتاة والمردة من الفتك، فإذا الكلام جار علي أصالة الإيمان، وذكر المؤمن تابع له، فإذا أخر كان بالعكس، فعلي هذا لا يفتقر في الحديث إلي إلزام النسخ والتكليف فيه من جهة المعإني.
وأما من جهة البيان، فإن التركيب من الاستعارة التمثيلية؛ فإنه صلى الله عليه وسلم شبه العادة المستمرة والشريعة الثابتة في الجاهلية من الفتك والغيلة، في اطرادها وإطلاقها بالوحوش الأوابد والإبل الشوارد، وشبه الإسلام بالخيل السوابق والجياد العواتق، وشبه نسخه لتلك الشريعة الباطلة وهدمه لتلك القاعدة الزائغة بالقيد علي تلك الأوابد. قال امرؤ القيس:
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
ثم أدخل صورة المشبه في جنس صورة المشبه به ثم حذف المشبه به وجعل القرينة الدالة عليه ما يخص المشبه به من القيد، فإذا كان الشأن هذا فكيف يذهب إلي جعل الفتك من خصائص من بعث لإتمام مكارم الأخلاق، وقلع رذائلها من سنحها صلوات الله وسلامه عليه؟ والحديث من جوامع الكلم التي خص بها هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عرفه من ذاق معرفة خواص التركيب، واعتلي ذروة علم المعإني، وامتطى غارب علم البيان. والله أعلم.