فقال:((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟)) قالوا: نعم؛ ما جربنا عليك إلا صدقا. قال:((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)). فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم؛ ألهذا جمعتنا؟! فنزلت (تبت يدا أبي لهب وتب) متفق عليه. وفي رواية: نادى: ((يا بني عبد مناف! إنما مثلي مثلكم كمثل رجل رأي العدو فانطلق يربأ أهله، فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف: يا صباحاه!)).
ــ
وقوله:((أرأيتكم)) أي أخبروني، الضمير المتصل المرفوع من الخطاب العام، والضمير الثاني لا محل له فهو كالبيان للأول؛ لأن الأول بمنزلة الجنس الشائع في المخاطبين، فيستوي فيه التأنيث والتذكير والإفراد والجمع، فإذا أريد بيانه بأحدى هذه الأنواع بين به، فأتى في الحديث بعلامة الجمع بيانا للمراد. وضمن ((جرب)) معنى الإلقاء، وعداه ((بعلى)) أي ما ألقينا عليك قولا مجربين لك، هل تكذب فيه أم لا؟ فما سمعنا منك إلا صدقا. وقوله:((بين يدي)) ظرف لقوله: ((نذير)) وهو بمعنى قدام؛ لأن كل من يكون قدام أحد يكون بين الجهتين السابقتين ليمينه وشماله، وفيه تمثيل، مثل إنذاره القوم بعذاب الله تعالى النازل على القوم بنذير قوم يتقدم جيش العدو فينذرهم.
((قض)): التب والتباب الخسران والهلاك، ونصبه بعامل مضمر، و ((سائر اليوم)) يريد جميع الأيام. ((تو)): من ذهب في ((سائر)) إلى البقية فإنه غير مصيب؛ لأن الحرف من السير لا من السؤر، وفي أمثالهم في اليأس من الحاجة. أسائر اليوم وقد زال الظهر.
أقول: وفيه نظر لأنه قال صاحب النهاية: - السائر المهموز الباقي -. والناس يستعملونه في معنى الجمع وليس بصحيح، وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث، كأنها تعني باقي الشيء، ويدل على تصحيح ما في النهاية ما في أساس البلاغة؛ فإنه أورده في باب السين مع الهمز قائلا أسأر الشارب في الإناء سؤرا وسؤرة أي بقية.
وفي المثل: سائر اليوم وقد زال الظهر. انتهى كلامه. فعلى هذا المراد بقوله:((سائر اليوم)) بقية الأيام المستقبلة. ((نه)): ((يربأ أهله)) أي يحفظهم من عدوهم، والإسم الربيئة وهو العين. والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو، ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه، وارتبأت الجبل إذا صعدته.
أقول: أسلوب الحديث يسمى في علم البديع بالمذهب الكلامي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استنطقهم أولا بما أقروا به أنه صادق، فلما اعترفوا ألزمهم بقوله:((فإني نذير لكم)) إلخ، أي إذا اعترفتم بصدقي فاتبعوا لما أقول لكم.